الطريبيلي
12-15-2010, 10:28 PM
معاوية يؤسس الدولة الأموية
http://www.tarooti.net/upfiles/mv227473.gif (http://www.tarooti.net/)
بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، نودي بمعاوية خليفة في بيت المقدس سنة 40 هجرية،661 ميلادية 1، وبسيطرته على الخلافة أصبحت دمشق عاصمة الدولة الإسلامية، التي لم تكن آنذاك تضم من العالم الإسلامي كله غير بلاد الشام سوى مصر، التي كان عمرو بن العاص قد انتزعها بعد التحكيم، فإن أهل العراق بايعوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام خليفة شرعياً، ولم يكن ولاء مكة والمدينة لآل أبي سفيان قوياً، فقد دخل هؤلاء الإسلام مقهورين بالفتح، بعد سقوط مكة، فكان إسلامهم عن مصلحة لا عن إيمان.
وكانت ولاية الحسن سبعة أشهر وسبعة أيام، فقد صالح معاوية في ربيع الآخر أو جمادي الأول سنة إحدى وأربعين 2، فاستولى معاوية على الحكم في ظل ظروف غير طبيعية، إذ لم يتمّ ذلك عبر "الإنتخاب" أو "الجماعة"، ولم تستند حكومة معاوية إلى رضى الأمة أو مشورتها، وإنما فرضت عليها بقوة السلاح، وفي أعقاب حرب دامية. وقد اعترف معاوية بذلك: " والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرَّة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة" 3. وألقى في النخيلة، بعد الصلح، بمجرد وصوله إلى العراق، خطاباً أعلن فيه عن جبروته وطغيانه على الأمة واستهانته بحقوقها، وأنَّه إنما قاتل المسلمين وسفك دماءهم ليتأمَّر عليهم، وأن جميع ما أعطاه للإمام الحسن عليه السلام من شروط فهي تحت قدميه لا يفي بشيء منها، فقال:
"والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون" 4.
وهكذا، فقدت الدولة مع معاوية الكثير من ملامحها الدينية السابقة.
وبعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة، تراجع الدور الرسمي للكوفة، آخر عاصمة لدولة الخلافة، قبل الدولة الأموية، إلى الوراء، مع بقاء دور سياسي واستقطابي لها في مواجهة النظام الأموي.
واما المدينة، عاصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأُولى وعاصمة الخلفاء من بعده، فقد أصبحت من الماضي وأخذت تنطفئ وتصبح مثل مكة، مدينة دينية، حيث قبر النبي والصحابة، وأما أولادهم، ممن لم يعد له حظ في قيادة الدولة الإسلامية، فقد عاش حصاراً وعزلة سياسية، إما لأن معاوية اشترى سكوت بعضهم بالمال كعبد الله بن عمر، وإما لأن سياسة معاوية ونظامه الأمني فرضَا طوقاً أمنياً إرهابياً على البعض الآخر، كالإمامين الحسن والحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير، فاحتوى معارضتهم بالقوة والتخويف.
لقد نجح معاوية في تأسيس الدولة الأموية، معتمداً على مجموعة سياسات، كاستقطاب الأنصار والحلفاء، وإضعاف الخصوم، والإيقاع فيما بينهم. وكان يستخدم من أجل ذلك مختلف الوسائل غير المشروعة، مما أسهم في ولادة أسلوب جديد لم يكن الانسان العربي يألفه في العهود السابقة.
لقد قام معاوية بانقلاب تنظيمي سياسي على دولة الخلافة وحوّلها إلى مُلك 5. ولم يقف هذا الإنقلاب عند المضمون العائلي الوراثي الشخصاني للدولة، فقد تقصَّى معاوية أخبار وأحوال ملوك البيزنطيين 6، واقتبس الكثير من مظاهر نظامهم متأثراً إلى حدٍّ بعيد بالتاريخ الحضاري البيزنطي لبلاد الشام 7، فقد وجد معاوية في الشام، عندما دخلها مع الجيوش العربية الفاتحة، حضارة بيزنطية متمرسة في الحكم والإدارة، لم تألفها روح البداوة قبل ذلك، كما وجد جهازاً إداريا
من الموظفين، الذين كانوا يعملون في ظل الإدارة البيزنطية في الميدانين الإداري والمالي، مما ساعده على حكم بلاد الشام، وذلّل أمامه الكثير من المشاكل.
بل كان لنصارى الشام دور مميّز وصل إلى قمة السلطة، فكانت زوجة معاوية نصرانية على مذهب اليَعاقِبة، وهي عربية سورية من بني بجدل من قبيلة كلب، نفس القبيلة التي تنتمي إليها نائلة زوجة عثمان. وقد لعب أخوال يزيد بن معاوية دوراً كبيراً في تكوين شخصيته الدينية والسياسية. كذلك كان منصور 8 ابن سرجون، الذي ساهم في تسليم دمشق للعرب، نصرانياً من أسرة سورية، كان يتولى بعض رجالها شؤون بيت المال أيام البيزنطيين 9. وكان طبيب معاوية أيضاً نصرانياً، وهو ابن أثال، الذي ولَّاه معاوية على جباية خراج حمص 10، وهي وظيفة عليا لم يسبق لنصراني قبله أن وصل إليها في تاريخ الإسلام 11.
تحويل مظاهر الخلافة إلى مظاهر كسروية وقيصرية
كان معاوية ميّالاً بطبعه إلى انتحال الملك، وهو بعدُ ما يزال والياً على الشام، حين وصفه الخليفة عمر بن الخطاب، بأنه "كسرى العرب" 12، ثم جعل الخلافة ملكاً 13 فكان أول ملك في الإسلام، فقد كرّس الإنفصال ولأول مرة في حياة الدولة الإسلامية بين المسجد والحاكم، ولم يعد للمسجد هذا الدور الفعّال في الحياة السياسية العامة، فقد أقام حاجزاً في المسجد بينه وبين عامة الناس،
ً وأحدث المقصورة 14 في الجامع وجعلها مقاماً للصلاة خاصاً به تفصله عن بقية المصلّين، وهو أول من خطب قاعداً 15، وأول من اتخذ سرير الملك 16.
وكانت كل إقامته في قصره "الخضراء" 17، الذي تميَّز بكل مظاهر الملوك 18، من العرش إلى الحرس إلى الحجّاب، وغير ذلك من المظاهر التي انفرد بها معاوية، دون أسلافه من خلفاء الدولة الإسلامية 19.
الجيش الأموي
إن نقطة الضعف الرئيسة في دولة معاوية كانت في أنها قامت على القهر والغلبة وسفك الدماء، والدولة التي تقوم على القهر والغلبة وسفك الدماء تحتاج إلى ذلك من أجل أن تستمر، وإلاّ فسوف تكون عرضة للإنهيار السرّيع، ولذلك كان الحاكم الأموي دائماً نزّاعاً إلى سفك الدماء والقتل والإرهاب، معتقداً أنه لو تراخى في ذلك فسوف يسقط، ويقوم أعداؤه بتصفية حسابهم معه بنفس الطريقة. فإذا بالدولة الأموية دولة عسكرية أمنية، منذ ولادتها التي تمّت بالقوة، مروراً بنهجها القمعي الدموي في التعامل مع خصومها، وانتهاءً بسقوطها الذي تم على أيدي العباسيين، وبالقوة أيضاً، وبأسلوب أكثر قسوة ودموية من الأساليب الأموية نفسها.
وقد تحملت قبائل الشام، وسوادها الأعظم يومئذٍ نصارى من العرب السوريين، وأكثرها يمنية، وبرغم تناقضاتها القبلية، وزر هذا الدور الدموي والإرهابي، وأصبحت هي المادة الحربية التي درّبها معاوية، وألّف منها القوات الضاربة التي
سميت الجيش الأموي، الذي أصبح عصب الحياة السياسية والعسكرية في الدولة الأموية، وأقوى جيش منظّم عرفه العرب، وكان الأداة الفاعلة التي اعتمد عليها معاوية وكبار الخلفاء الأمويين، في السيطرة وضبط الأمن، وتثبيت نظامهم، وتوطيد عروشهم، وتوسيع حركة الفتوحات، وضرب الحركات المعارضة المعادية بمنتهى القسوة والدموية، كما فعل عبيد الله ابن زياد في العراق، ومسلم ابن عقبة في المدينة، والحجاج بن يوسف في مكة.
وكان لا بد للحاكم الأموي أن يفلّت هذا الجيش، الذي كان أداة طيّعة في قبضة الدولة ولعب دوراً كبيراً في الدفاع عن الحكم الأموي، ويعطيه امتيازات خاصة 20، فتحولت عملياته وحروبه إلى وسيلة للنهب والسلب، وإرواء رغبات القادة والجنود المتعطشين للمال وللسيطرة، وقد ساعد ذلك من جهة أخرى على امتصاص نقمة القبائل والقادة والجنود الذين يشتم منهم رائحة معارضة للنظام، فيتم إرسالهم في البعوث والغزوات، ومن ثم إبعادهم عن التدخل في شؤون الحكم 21.
السياسة الداخلية للدولة الأموية
إن المبدأ السياسي الذي قام عليه النظام الأموي، وهو حكم العائلة، كان مادة السياسة الداخلية للدولة، فاصبحت الأسرة الأموية صاحبة النفوذ الأكبر مطلقاً، مالياً وسياسياً وإدارياً واجتماعياً، بل ودينياً، فكان أحد أمراء بني أمية، على الرغم من فسقه وفجوره، يتولى كل عام إمارة الحج !!
كذلك كان لقبائل الشام امتيازات أخرى، وإن كانت أقل مرتبة، لكن معاوية كان حريصاً على المحافظة على قاعدة التوازن معها واستيعاب تناقضاتها المتوارثة، فنجده يتحالف مع القبائل اليمنية، ويصاهر أقوى قبائلهم، "كلب"، ويعيّن في
نفس الوقت الضحاك بن قيس الفهري، وهو من قريش الظواهر وهي من القبائل القيسية، في منصب مهم وخطير وهو ولاية دمشق 22، كذلك نجده يتجنب إلى حدٍّ بعيد الإستعانة بأهل الحجاز في مشروعه العسكري.
وهكذا كانت قبائل الشام تعمل كلها في خدمة العائلة الأموية، بل وتتسابق في السعي إلى احتلال الوظائف في خدمة الأمويين.
أولاً: السياسة المالية
مشى معاوية على خطى سلفه عثمان، فلم يكن لسياسته فيما يختص بالمال أية علاقة بالسنَّة النبوية ولا حتى بسنَّة عمر، وإنما كان تصرفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه، فهو يهب الثراء العريض للقوى المؤيدة له ويحرم العطاء للمعارضين، ويستولي على الأموال ويفرض الضرائب بغير وجه حق من كتاب أو سنَّة أو عرف.
وفوق ذلك قام معاوية بإشاعة الحرمان في الأقطار التي كانت تضم القوى المعارضة له، فقد أجبر أهل يثرب على بيع أملاكهم واشتراها بأبخس الأثمان، وعندما أرسل القيّم على أملاكه لتحصيل وارداتها منعوه عنها، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد وقالوا له:إن هذه الأموال كلها لنا، وإن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا درهماً فما فوقه حتى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة فاشتراها بجزء من مائة من ثمنه فرد عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمرِّه.
ووفد على معاوية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري فلم يأذن له تحقيراً وتوهيناً به فانصرف عنه، فوجَّه له معاوية بستمائة درهم فردَّها جابر وقال لرسول معاوية: قل له، والله يا بن آكلة الأكباد لا تجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبداًً.
وانتشر الفقر في بيوت الأنصار، وخيَّم عليهم البؤس حتى لم يتمكن الرجل منهم من شراء راحلة يستعين بها على شؤونه، ولما حجَّ معاوية واجتاز على يثرب، استقبله الناس ومنهم الأنصار، وكان أكثرهم مشاة فقال لهم: " ما منعكم من تلقيّ كما يتلقاني الناس!!؟ " فقال له سعيد بن عبادة: " منعنا من ذلك قلة الظهر، وخفة ذات اليد، وإلحاح الزمان علينا، وإيثارك بمعروفك غيرنا" !! فقال معاوية "أين أنتم عن نواضح المدينة؟" فأجابه سعيد قائلاً: " نحرناها يوم بدر، يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان".
وأما في العراق، وهو المركز الرئيس للمعارضة، فكان ولاته كالمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وسمرة بن جندب يحبسون العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة وعن كل من له هوى في أهل البيت عليهم السلام، وقد سنَّ معاوية بذلك سنَّة سار عليها الحكام الأمويون من بعده في اضطهاد العراق وحرمان أهله 23، وحتى عمر بن عبد العزيز، الذي يعتبرونه أعدلهم، فإنه لم يساو بين العراقيين والشاميين في العطاء، بل زاد في عطاء الشاميين عشرة دنانير ولم يزد في عطاء أهل العراق.
تمييز أهل الشام
وبينما كانت البلاد الإسلامية تعاني الجهد والحرمان كانت الشام في رخاء شامل. بل حمل أهلها على رقاب الناس، فكان الشامي هو الأولى دائماً، وهو المخدوم، وهو السيِّد، وله الإمتيازات المالية والسياسية والإجتماعية، وقد ألمح إلى ذلك مالك بن هبيرة في حديثه مع الحصين بن نمير إذ قال له: " هلمّ فلنبايع لهذا الغلام أي خالد بن يزيد الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب".
http://www.tarooti.net/upfiles/mv227473.gif (http://www.tarooti.net/)
بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، نودي بمعاوية خليفة في بيت المقدس سنة 40 هجرية،661 ميلادية 1، وبسيطرته على الخلافة أصبحت دمشق عاصمة الدولة الإسلامية، التي لم تكن آنذاك تضم من العالم الإسلامي كله غير بلاد الشام سوى مصر، التي كان عمرو بن العاص قد انتزعها بعد التحكيم، فإن أهل العراق بايعوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام خليفة شرعياً، ولم يكن ولاء مكة والمدينة لآل أبي سفيان قوياً، فقد دخل هؤلاء الإسلام مقهورين بالفتح، بعد سقوط مكة، فكان إسلامهم عن مصلحة لا عن إيمان.
وكانت ولاية الحسن سبعة أشهر وسبعة أيام، فقد صالح معاوية في ربيع الآخر أو جمادي الأول سنة إحدى وأربعين 2، فاستولى معاوية على الحكم في ظل ظروف غير طبيعية، إذ لم يتمّ ذلك عبر "الإنتخاب" أو "الجماعة"، ولم تستند حكومة معاوية إلى رضى الأمة أو مشورتها، وإنما فرضت عليها بقوة السلاح، وفي أعقاب حرب دامية. وقد اعترف معاوية بذلك: " والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرَّة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة" 3. وألقى في النخيلة، بعد الصلح، بمجرد وصوله إلى العراق، خطاباً أعلن فيه عن جبروته وطغيانه على الأمة واستهانته بحقوقها، وأنَّه إنما قاتل المسلمين وسفك دماءهم ليتأمَّر عليهم، وأن جميع ما أعطاه للإمام الحسن عليه السلام من شروط فهي تحت قدميه لا يفي بشيء منها، فقال:
"والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون" 4.
وهكذا، فقدت الدولة مع معاوية الكثير من ملامحها الدينية السابقة.
وبعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة، تراجع الدور الرسمي للكوفة، آخر عاصمة لدولة الخلافة، قبل الدولة الأموية، إلى الوراء، مع بقاء دور سياسي واستقطابي لها في مواجهة النظام الأموي.
واما المدينة، عاصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأُولى وعاصمة الخلفاء من بعده، فقد أصبحت من الماضي وأخذت تنطفئ وتصبح مثل مكة، مدينة دينية، حيث قبر النبي والصحابة، وأما أولادهم، ممن لم يعد له حظ في قيادة الدولة الإسلامية، فقد عاش حصاراً وعزلة سياسية، إما لأن معاوية اشترى سكوت بعضهم بالمال كعبد الله بن عمر، وإما لأن سياسة معاوية ونظامه الأمني فرضَا طوقاً أمنياً إرهابياً على البعض الآخر، كالإمامين الحسن والحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير، فاحتوى معارضتهم بالقوة والتخويف.
لقد نجح معاوية في تأسيس الدولة الأموية، معتمداً على مجموعة سياسات، كاستقطاب الأنصار والحلفاء، وإضعاف الخصوم، والإيقاع فيما بينهم. وكان يستخدم من أجل ذلك مختلف الوسائل غير المشروعة، مما أسهم في ولادة أسلوب جديد لم يكن الانسان العربي يألفه في العهود السابقة.
لقد قام معاوية بانقلاب تنظيمي سياسي على دولة الخلافة وحوّلها إلى مُلك 5. ولم يقف هذا الإنقلاب عند المضمون العائلي الوراثي الشخصاني للدولة، فقد تقصَّى معاوية أخبار وأحوال ملوك البيزنطيين 6، واقتبس الكثير من مظاهر نظامهم متأثراً إلى حدٍّ بعيد بالتاريخ الحضاري البيزنطي لبلاد الشام 7، فقد وجد معاوية في الشام، عندما دخلها مع الجيوش العربية الفاتحة، حضارة بيزنطية متمرسة في الحكم والإدارة، لم تألفها روح البداوة قبل ذلك، كما وجد جهازاً إداريا
من الموظفين، الذين كانوا يعملون في ظل الإدارة البيزنطية في الميدانين الإداري والمالي، مما ساعده على حكم بلاد الشام، وذلّل أمامه الكثير من المشاكل.
بل كان لنصارى الشام دور مميّز وصل إلى قمة السلطة، فكانت زوجة معاوية نصرانية على مذهب اليَعاقِبة، وهي عربية سورية من بني بجدل من قبيلة كلب، نفس القبيلة التي تنتمي إليها نائلة زوجة عثمان. وقد لعب أخوال يزيد بن معاوية دوراً كبيراً في تكوين شخصيته الدينية والسياسية. كذلك كان منصور 8 ابن سرجون، الذي ساهم في تسليم دمشق للعرب، نصرانياً من أسرة سورية، كان يتولى بعض رجالها شؤون بيت المال أيام البيزنطيين 9. وكان طبيب معاوية أيضاً نصرانياً، وهو ابن أثال، الذي ولَّاه معاوية على جباية خراج حمص 10، وهي وظيفة عليا لم يسبق لنصراني قبله أن وصل إليها في تاريخ الإسلام 11.
تحويل مظاهر الخلافة إلى مظاهر كسروية وقيصرية
كان معاوية ميّالاً بطبعه إلى انتحال الملك، وهو بعدُ ما يزال والياً على الشام، حين وصفه الخليفة عمر بن الخطاب، بأنه "كسرى العرب" 12، ثم جعل الخلافة ملكاً 13 فكان أول ملك في الإسلام، فقد كرّس الإنفصال ولأول مرة في حياة الدولة الإسلامية بين المسجد والحاكم، ولم يعد للمسجد هذا الدور الفعّال في الحياة السياسية العامة، فقد أقام حاجزاً في المسجد بينه وبين عامة الناس،
ً وأحدث المقصورة 14 في الجامع وجعلها مقاماً للصلاة خاصاً به تفصله عن بقية المصلّين، وهو أول من خطب قاعداً 15، وأول من اتخذ سرير الملك 16.
وكانت كل إقامته في قصره "الخضراء" 17، الذي تميَّز بكل مظاهر الملوك 18، من العرش إلى الحرس إلى الحجّاب، وغير ذلك من المظاهر التي انفرد بها معاوية، دون أسلافه من خلفاء الدولة الإسلامية 19.
الجيش الأموي
إن نقطة الضعف الرئيسة في دولة معاوية كانت في أنها قامت على القهر والغلبة وسفك الدماء، والدولة التي تقوم على القهر والغلبة وسفك الدماء تحتاج إلى ذلك من أجل أن تستمر، وإلاّ فسوف تكون عرضة للإنهيار السرّيع، ولذلك كان الحاكم الأموي دائماً نزّاعاً إلى سفك الدماء والقتل والإرهاب، معتقداً أنه لو تراخى في ذلك فسوف يسقط، ويقوم أعداؤه بتصفية حسابهم معه بنفس الطريقة. فإذا بالدولة الأموية دولة عسكرية أمنية، منذ ولادتها التي تمّت بالقوة، مروراً بنهجها القمعي الدموي في التعامل مع خصومها، وانتهاءً بسقوطها الذي تم على أيدي العباسيين، وبالقوة أيضاً، وبأسلوب أكثر قسوة ودموية من الأساليب الأموية نفسها.
وقد تحملت قبائل الشام، وسوادها الأعظم يومئذٍ نصارى من العرب السوريين، وأكثرها يمنية، وبرغم تناقضاتها القبلية، وزر هذا الدور الدموي والإرهابي، وأصبحت هي المادة الحربية التي درّبها معاوية، وألّف منها القوات الضاربة التي
سميت الجيش الأموي، الذي أصبح عصب الحياة السياسية والعسكرية في الدولة الأموية، وأقوى جيش منظّم عرفه العرب، وكان الأداة الفاعلة التي اعتمد عليها معاوية وكبار الخلفاء الأمويين، في السيطرة وضبط الأمن، وتثبيت نظامهم، وتوطيد عروشهم، وتوسيع حركة الفتوحات، وضرب الحركات المعارضة المعادية بمنتهى القسوة والدموية، كما فعل عبيد الله ابن زياد في العراق، ومسلم ابن عقبة في المدينة، والحجاج بن يوسف في مكة.
وكان لا بد للحاكم الأموي أن يفلّت هذا الجيش، الذي كان أداة طيّعة في قبضة الدولة ولعب دوراً كبيراً في الدفاع عن الحكم الأموي، ويعطيه امتيازات خاصة 20، فتحولت عملياته وحروبه إلى وسيلة للنهب والسلب، وإرواء رغبات القادة والجنود المتعطشين للمال وللسيطرة، وقد ساعد ذلك من جهة أخرى على امتصاص نقمة القبائل والقادة والجنود الذين يشتم منهم رائحة معارضة للنظام، فيتم إرسالهم في البعوث والغزوات، ومن ثم إبعادهم عن التدخل في شؤون الحكم 21.
السياسة الداخلية للدولة الأموية
إن المبدأ السياسي الذي قام عليه النظام الأموي، وهو حكم العائلة، كان مادة السياسة الداخلية للدولة، فاصبحت الأسرة الأموية صاحبة النفوذ الأكبر مطلقاً، مالياً وسياسياً وإدارياً واجتماعياً، بل ودينياً، فكان أحد أمراء بني أمية، على الرغم من فسقه وفجوره، يتولى كل عام إمارة الحج !!
كذلك كان لقبائل الشام امتيازات أخرى، وإن كانت أقل مرتبة، لكن معاوية كان حريصاً على المحافظة على قاعدة التوازن معها واستيعاب تناقضاتها المتوارثة، فنجده يتحالف مع القبائل اليمنية، ويصاهر أقوى قبائلهم، "كلب"، ويعيّن في
نفس الوقت الضحاك بن قيس الفهري، وهو من قريش الظواهر وهي من القبائل القيسية، في منصب مهم وخطير وهو ولاية دمشق 22، كذلك نجده يتجنب إلى حدٍّ بعيد الإستعانة بأهل الحجاز في مشروعه العسكري.
وهكذا كانت قبائل الشام تعمل كلها في خدمة العائلة الأموية، بل وتتسابق في السعي إلى احتلال الوظائف في خدمة الأمويين.
أولاً: السياسة المالية
مشى معاوية على خطى سلفه عثمان، فلم يكن لسياسته فيما يختص بالمال أية علاقة بالسنَّة النبوية ولا حتى بسنَّة عمر، وإنما كان تصرفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه، فهو يهب الثراء العريض للقوى المؤيدة له ويحرم العطاء للمعارضين، ويستولي على الأموال ويفرض الضرائب بغير وجه حق من كتاب أو سنَّة أو عرف.
وفوق ذلك قام معاوية بإشاعة الحرمان في الأقطار التي كانت تضم القوى المعارضة له، فقد أجبر أهل يثرب على بيع أملاكهم واشتراها بأبخس الأثمان، وعندما أرسل القيّم على أملاكه لتحصيل وارداتها منعوه عنها، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد وقالوا له:إن هذه الأموال كلها لنا، وإن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا درهماً فما فوقه حتى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة فاشتراها بجزء من مائة من ثمنه فرد عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمرِّه.
ووفد على معاوية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري فلم يأذن له تحقيراً وتوهيناً به فانصرف عنه، فوجَّه له معاوية بستمائة درهم فردَّها جابر وقال لرسول معاوية: قل له، والله يا بن آكلة الأكباد لا تجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبداًً.
وانتشر الفقر في بيوت الأنصار، وخيَّم عليهم البؤس حتى لم يتمكن الرجل منهم من شراء راحلة يستعين بها على شؤونه، ولما حجَّ معاوية واجتاز على يثرب، استقبله الناس ومنهم الأنصار، وكان أكثرهم مشاة فقال لهم: " ما منعكم من تلقيّ كما يتلقاني الناس!!؟ " فقال له سعيد بن عبادة: " منعنا من ذلك قلة الظهر، وخفة ذات اليد، وإلحاح الزمان علينا، وإيثارك بمعروفك غيرنا" !! فقال معاوية "أين أنتم عن نواضح المدينة؟" فأجابه سعيد قائلاً: " نحرناها يوم بدر، يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان".
وأما في العراق، وهو المركز الرئيس للمعارضة، فكان ولاته كالمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وسمرة بن جندب يحبسون العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة وعن كل من له هوى في أهل البيت عليهم السلام، وقد سنَّ معاوية بذلك سنَّة سار عليها الحكام الأمويون من بعده في اضطهاد العراق وحرمان أهله 23، وحتى عمر بن عبد العزيز، الذي يعتبرونه أعدلهم، فإنه لم يساو بين العراقيين والشاميين في العطاء، بل زاد في عطاء الشاميين عشرة دنانير ولم يزد في عطاء أهل العراق.
تمييز أهل الشام
وبينما كانت البلاد الإسلامية تعاني الجهد والحرمان كانت الشام في رخاء شامل. بل حمل أهلها على رقاب الناس، فكان الشامي هو الأولى دائماً، وهو المخدوم، وهو السيِّد، وله الإمتيازات المالية والسياسية والإجتماعية، وقد ألمح إلى ذلك مالك بن هبيرة في حديثه مع الحصين بن نمير إذ قال له: " هلمّ فلنبايع لهذا الغلام أي خالد بن يزيد الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب".