--------------------------------------------------------------------------------
(1) الوسائل 16 / 87 ، الباب 93 من جهاد النفس ، الحديث 2 .
(2) الوسائل 16/79 ـ 80 ، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 1.
بالغيب...)(1) أمّا إذا حضر الموت وانكشفت اُمور الآخرة فقد تحوّل الغيب إلى الشهود، وعندئذ لا قيمة مهمّة لحدوث إيمان أو توبة; ولعلّه لهذا السبب قال الله تعالى: (وقالوا لولا أُنزِل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون)(2).
إذ إن نزول الملك الذي هو من عالم الغيب يعني تحوّل الغيب إلى الشهود، وعندئذ تنقطع المهلة، ويُقضى الأمر. وأيضاً قال الله سبحانه وتعالى: (وقالوا يا أيّها الذي نزّل عليه الذكر انك لمجنون* لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين* ماننزّل الملائكة إلاّ بالحق وما كانوا إذن مُنظرين)(3).
وثانياً ـ أنّ فتح باب التوبة لم يكن يعني: أنّ التائب لا يستحقّ العقاب على معصيته، فإنّ العاصي خالف الحقّ، ومخالفُ الحقّ يستحقُّ الجزاء ولو تاب، وذلك من قبيل ما لو أنّ أحداً قَتَل ابنك، ثُمّ تندّم على ما فعل وتاب لم تُسْقِط توبتُه حقَّ قِصاصك عليه، فكذلك من خالف حقّ الربّ تبارك وتعالى فاستحقّ العقاب لا يُسْقِط بتوبته استحقاقه للعقاب، وإنّما يعني فتحُ باب التوبة: أنّ الله ـ تعالى ـ يريد تطهير روحك، وتنظيف قلبك من الدنس الذي تدنّستَ به بسبب المعصية، وجعل العقاب رحمةً بك; كي يؤدّي إلى أن تحرق روحك بنار التوبة قبل نار جهنّم، فإذا تبت فقد طهرت من الدنس، ورجعت إلى الفطرة الصافية، وكان هذا هو المقصود لله سبحانه، فيقبل توبتك; لأنّ التوبة تعني: التحول والانقلاب الحقيقيين فيواقع نفسك، وهذا لا يكون حينما تكون التوبة نتيجة رؤية البأس والهلاك; إذ عندئذ يندم الإنسان لما يرى أمامه من العذاب الفعلي، وهذا لا يعني حصول التحوّل والانقلاب الحقيقيين في نفسه ورجوع الصفاء
--------------------------------------------------------------------------------
(1) السورة 2، البقرة، الآيات 1 ـ 3.
(2) السورة 6، الأنعام، الآية: 8.
(3) السورة 15، الحجر، الآيات: 6 ـ 8.
والطهارة إليه.
وعلى آيّة حال، فالعلاجات الروحية الواردة في القرآن او عن المعصومين حالها حال وصفات أطباء الجسم، أي: إنّه كما تكون وصفة الطبيب نافعة حينما تستعمل في محلّها، أمّا لو استعملت وصفة الطبيب التيوضعها للتيفو مثلاً في ذات الجَنْب ، والوصفة التي وضعها لذات الجَنْب في التيفو، لا تنفع بل تضرّ، كذلك الوصفات الروحية الواردة في الكتاب والسنّة، فمثلاً هذه المهلة والسَعَة التي عرفتها في باب التوبة قد وضعت لعلاج مرض اليأس; لأنّه لولاها ليأس الذين لم يمارسوا التوبة فور حصول المعصية ولأدّى ذلك إلى تماديهم في الغيّ وهلاكهم، فجعل باب التوبة مفتوحاً أمامهم ما لم يحضرهم الموت. أمّا لو استعملها أحد في مقام تسويف التوبة بحجة أنّه مادامت التوبة مقبولة قبل حضور الموت، والسنة كثيرة، والشهر كثير، والجمعة كثيرة، واليوم كثير، فلا داعي لي إلى الاستعجال بالتوبة وحرمان النفس من اللذات والشهوات، فقد اصبحت الوصفة هنا مضرّة لا نافعة; لأنّ تأجيل التوبة وتسويفها يجعل الإنسان بين خطرين: خطر مباغتة الموت وحيلولته بين الإنسان والتوبة، وخطر اشتداد رين القلب بالتمادي في الذنوب إلى أن ينحرم من التوبة ولا يتوفّق لها.
وقد ورد عن إمامنا أمير المؤمنين أنّه قال: «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجّي التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين...». إلى أن قال: «... إن عرضت له شهوة أسلف المعصية، وسوّف التوبة...»(1).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) نهج البلاغة: 687 ـ 688، رقم الحكمة: 150.
وقد رُوِيَ عن لقمان أنّه قال لابنه: «يا بنيّ لا تؤخّر التوبة فإن الموت يأتي بغتة...»(1).
فالذي يستعمل هذه الوصفة بهذا الأُسلوب غير الصحيح وهو تأجيل التوبة لا يأمن الابتلاء في يوم موته بالوصف المنقول عن إمامنا أمير المؤمنين فيما ورد في نهج البلاغة(2) من قوله: «... اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم، ثُمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع باُذنه على صحة من عقله وبقاء من لبّه، يفكّر فِيمَ أفنى عمره، وفيم أذهب دهره ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تَبِعَات جَمْعِها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتّعون بها، فيكون المَهنَأُ لغيره، والعِبءُ على ظهره ، والمرء قد غَلِقَتْ رُهُونُهُ بها، فهو يعضّ يديه ندامة على ما أصحر له عند موته من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، ويتمنّى أنّ الذي كان يَغْبِطُهُ بها ويَحْسُده عليها قد حازها دونه...».
وعن إمامنا زين العابدين أ نّه قال في حديث طويل :
فيا لهف نفسي كم أُسوّف توبتي *** وعمريَ فان والردى ليَ ناظر
وكل الذي أَسلفت في الصحف مثبت *** يجازي عليه عادل الحكم قاهر(3)
ومنها ـ الإيمان كما هو صريح القرآن في قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الذين
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المحجة 7/22.
(2) نهج البلاغة: 206 ـ 207، رقم الخطبة: 109.
(3) البحار 46 / 87 تحت الخط.
يموتون وهم كفّار اولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً)(1). وقد جاء قيد الإيمان في عديد من آيات التوبة كقوله:
(إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا)(2).
(وإنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)(3)
(إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات...)(4).
(والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)(5).
وليس قيد الإيمان مستأنفاً بتخيّل أنّ الكافر لا معنى لأن يتوب إلى الله; وذلك لأنّ الكفر لا ينحصر في إنكار الله عزّ وجل، فقد يكون كتابياً يؤمن بالله، بل وقد يكون مشركاً من عبدة الأوثان الذين يقولون: (... ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى...)(6).
وقد دلّت بعض الروايات على اشتراط الإيمان بالمعنى الخاص، وهو: التشيع من قبيل ما مضى من صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر : «... أما والله إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان...»(7) فإنّ كلمة (أهل الإيمان) في ذاك التاريخ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) السورة 4، النساء، الآية: 18.
(2) السورة 19، مريم، الآية: 60.
(3) السورة 20، طه، الآية: 82.
(4) السورة 25، الفرقان، الآية : 70.
(5) السورة 7، الأعراف، الآية 153.
(6) السورة 39، الزمر، الآية: 3.
(7) الوسائل 16/79، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 1.
مصطلح للشيعة.
وأمّا شرائط الكمال فالروايات فيها عديدة:
منها ـ ما مضى من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة والذي ذكر فيه إذابة اللحم النابت من الحرام، وإذاقة الجسم ألم الطاعة كما ذاق حلاوة المعصية(1) ونحوه كلام أمير المؤمنين لكميل في رواية تحف العقول(2).
ومنها ـ ما ورد فيه شرط الصوم كحديث أبي بصير عن الصادق في تفسير توبة النصوح قال: «هو صوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة»(3).
ومنها ـ ما ورد فيه شرط الصلاة من قبيل ما في نهج البلاغة: «ما أهمني ذنب أُمهِلتُ بعده حتى أُصلّي ركعتين وأسأل الله العافية»(4).
ومنها ـ ما ورد فيه شرط الغسل والصلاة من قبيل ما عن مسعدة بن زياد(5)قال: «كنت عند أبي عبدالله فقال له رجل: بأبي أنت وأُمي أدخل كنيفاً ولي جيران، وعندهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود، فربّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنّ فقال : لا تفعل فقال الرجل : والله ما آتيهنّ، أنما هو سماع أسمعه بأُذني؟ فقال : لله أنت أما سمعت الله يقول: (... إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(6) فقال : بلى والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا من عجميّ، لا جرم إنّي لا أعود إن شاء الله، وإنّي أستغفر الله، فقال له: قم فاغتسل وصلّ ما بدالك، فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم، ما كان
--------------------------------------------------------------------------------
(1) نهج البلاغة: 745، رقم الحكمة: 417.
(2) تحف العقول: 197.
(3) الوسائل 16/78 ـ 79، الباب 88 من جهاد النفس، الحديث 1.
(4) نهج البلاغة: 719، رقم الحكمة: 299.
(5) الوسائل 3/331، الباب 18 من الأغسال المسنونة. الحديث الوحيد في الباب.
(6) السورة 17، الإسراء، الآية: 36.
أسوأ حالك لو متّ على ذلك، احمد الله وسله التوبة من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلاّ كلّ قبيح، والقبيح دعه لأهله، فإنّ لكلّ أهلاً».
من كتاب تزكية النفس
سماحة آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري