العالَم.
ثم أخذ يسأل عن علماء النجف بالتفصيل، فتعجبت منه، وقلت في نفسي: ما يدريه بجميع العلماء، فلما حان وقت الصلاة قمت، وصليت صلاة المغرب، وقررت أن أجلس بعد صلاة المغرب لأفطر وأرتاح، ثم أصلي صلاة العشاء وأواصل بعدها أعمال ليلة القدر إلى طلوع الفجر، وأثناء استراحتي نمت وجلست، وإذا بجامع الكوفة مضيء بالأنوار، فتعجبت فبقيت ألتفت وألتفت، فرأيت ذلك الشخص المضطجع تتلألأ من وجهه الأنوار، والشخص الذي كان جالس يصلي خلفه، ووراءه صفان أو ثلاثة صفوف، وكنت أسمع قراءته، فلما فرغ من صلاته جاء ذلك الشخص الجالس، وقال: سيدي أنأخذ هذا الشخص معنا أم لا ؟ فقال: لا بقي عليه امتحان لم يأخذه .
بعد أن قال تلك الكلمات غاب عني، فعرفت أنه الإمام الحجة(ع ) . ورأيت المسجد عاد مظلماً، و إذا بي في أول الليل، فقمت وصليت العشاء، وجلست أبكي متحسر؛ لأني لم أشرب من يديه فنجان القهوة.
وحاصل ما أردنا بيانه، أن الإنسان يمر بعدة مراحل يتمحص فيها، حتى ينكشف له حقيقة نفسه، فمثلاً كل واحد منا يتصور أنه يحب الإسلام حباً عظيماً، لكن تنكشف له حقيقة نفسه عند الامتحان، أما الأوراد ومجرد الاعتقاد فإنهما لا يدلان على شيء.
وإن الغرض من نقل هذه القصة، أنني وأنت نمر بظروف شديدة نتمحص بها حتى ظهور الإمام سلام الله عليه؛ لكي تكون لدينا الياقة للاجتماع معه.
قضية ابن مهزيار
أذكر لك قضية أخرى وقعت في الغيبة الصغرى، وهي قضية ابن مهزيار، و غالب الخطباء ينقل هذه القصة، وهي وموجودة في مصادر الشيعة.
كان الإمام(ع ) في الغيبة الصغرى لا يتصل بشيعته إلا بالسفراء فقط، وكلما مات سفير عين الإمام سفيراً آخر، إلى أن جاء السفير الرابع فقال له: قريباً تموت فلا توصي إلى أحد، فقد وقعت الغيبة الكبرى.
و ضمن تلك الفترة كان يعيش رجل اسمه ابن مهزيار، جاء إلى أحد السفراء وقال له: أنا مشتاق إلى رؤية الإمام (ع ) وأريد أن أراه بكل وسيله. وحيث إن الإمام لم يأذن لأحد أن يراه غير السفراء، بقي ابن مهزيار يلح سنوات لرؤية الحجة مما يكشف عن صدقه في دعوته، واستعداده لتضحية من أجل رؤيا الإمام.
وظل الرجل هكذا إلى أن جاءه الفرج، حيث أمر الإمام (ع ) السفير، أن يخبر ابن مهزيار، بأنه موجود في شعاب مكة. فحج ابن مهزيار في تلك السنة ولما فرغ من الحج خرج يمشي إلى شعاب مكة، وإذا برجلٍ يقول له: قف، أنت ابن مهزيار؟ فقال له: نعم، و بعد حديث جرى بينهما عرف أن المنادي من أصحاب الإمام (ع ) فطلب منه أن يوصله إلى الإمام، فأوصله إليه، فرأى خيمة من الشعر، يسكنها الإمام الحجة ابن الحسن(ع ) ففرح ابن مهزيار، وكاد يطير فرحاً، ثم قال ابن مهزيار: أأذن لي على الإمام. فذهب الخادم و دخل الخيمة، ثم جاء إلى ابن مهزيار وقال له: لقد جاءك الأذن، فدخل، وأول ما رأى الإمام بكى بكاءً عظيما، ثم سلم على الإمام، وقبل يديه و رجليه، فقال له: سيدي ياصاحب الأمر، لي سنوات وأنا أطلب أن أوفّق لهذه الرؤيا، فقال له: يابن مهزيار لقد حجبني عنكم سوء أعمالكم .... ثم قال الإمام: يابن مهزيار: لولا استغفار بعضكم لبعض لهلكتم...
نتائج من قصة ابن مهزيار
أن في قصة ابن مهزيار نقطتين هامتين:
النقطة الأولى: أثر سوء الأعمال
يشير الإمام من خلال قوله
لقد حجبني عنكم سوء أعمالكم ) أن الأعمال السيئة هي التي تحول بيننا و بين الإمام (ع ) وإلا ثق أن هناك أشخاص يتصلوا بالحجة ابن الحسن في عصرك هذا، لكن لا يتكلمون لي ولك.
النقطة الثانية: أهمية الدعاء للغير
يرشد (ع ) في قوله لابن مهزيار: (ع ) لولا استغفار بعضكم لبعض لهلكتم ( ع ) إلى أهمية استغفار كل واحد منا للآخر، نظير استغفار المؤمنين بعضهم لبعض بعد الصلاة، وتكمن أهمية الاستغفار بهذا الأسلوب لأنه ورد عنهم (ع ) ادعني بلسانٍ لم تعصني به(ع ) [بحار الأنوار90ج:386] فالدعاء الفردي قد يستجاب له وقد لا يستجاب، ولكن إذا دعوت مع المؤمنين فإن احتمال الإستجابه أكثر، إذ لعل فيهم من هو كفؤٌ للمغفرة.
ولقد كان الإمام الرضا (ع ) في يوم عرفة يدعو للمؤمنين كافة، من زوال الشمس إلى غروبها، فسأله أحدهم وقال له: سيدي، هذا يوم عرفة يوم عظيم يوم يستجاب فيه الدعاء، فما رأيتك دعوت لنفسك و لا دعوة واحدة، فقال له الإمام: ياهذا إذا دعوت لنفسي تكتب لي دعوة واحدة، فإن دعوت لأخواني المؤمنين فكل دعوة تكتب بمئة دعوة؛ ويعني الإمام من قوله ذلك أن الدعاء الفردي نتاجه استجابة دعوة واحدة، بينما الدعاء للغير يثمر قضاء مئة حاجة.
كيف نتعامل مع خلافاتنا
إن الإمام (ع ) يهدف من قوله لابن مهزيار
ع ) لولا استغفار بعضكم لبعض لهلكتم! خلق مجتمع متحاب متآلف، منزه عن الحقد و الضغينة مهما كان الخلاف بين أفراد ذلك المجتمع، ولذا علينا أن لا نصل في خلافاتنا إلى حد الحقد و البغض؛ لأن الحقد على المؤمنين حرام. نعم لا يوجد مانع أن تخطّئه لو رأيته على خطأ، لكن لا تحقد عليه ولا تصغره ولا تحتقره، وإن كان فاسقاً زانياً أو شارباً للخمر... نعم أغضب عليه، وأنهاه عن المعصية، وأضربه ضرب تأديب؛ لا ضرب حقد وتشفي، ولا تتبرأ منه بل تبرأ من عمله، فعصمة الولاية التي بينك وبينه لا تنقطع بحقد أو بغيره.
وفي عبر التاريخ ومواعظه ما يبين ذلك، فقد جاء أن رجل دخل على الإمام الصادق ( ع ) وقال له: فلان رجل شيعي، لكنه يشرب، ويفعل المنكرات. سيدي، هل أبرئ منه؟ فقال عليه السلام: لا. فقال الرجل: إذاً ما الذي أصنع ؟ قال له: أبرئ إلى الله من عمله.
و كيفية التبرئ من العمل غير الصالح الذي يرتكبه أحد المؤمنين، أن تقول مثلاً: اللهم أن عمل فلان معصية، و إني أبرء إليك من فعله.
مجتمع الألفة و المحبة:
إن كل الخلافات التي بين أفراد المجتمع الشيعي خلافات بسيطة، تجد حلها على يدي الحجة ابن الحسن (ع ) لأنه المرجع العام لكل الشيعة.
أن المجتمع الموالي الذي تجد للمحبة و التآلف بين أفراده مجتمع يسُر الإمام (ع ) ولذا فإن مجتمع كهذا كفيل أن يرغم أنوف أعداء أهل البيت(ع ) .
رأى أحد وكلاء الإمام (ع ) بعض الشيعة في الكوفة، يتنازعون على قضايا الميراث، مما أدى بهم إلى الحقد و التباعد، فدعاهم وقال لهم: إذا أعطيتكم أربعمائة دينار هل ترضون؟ فقالوا: نعم، فأعطاهم المال، فقاموا منه متحابين متآلفين، كل واحد راضٍ عن الآخر، ثم قال لهم وكيل الإمام: إن هذه الدنانير ليست من ملكي، إنها من إمامكم الصادق(ع ) أعطنيها لهذا الغرض، وقال لي: إذا رأيت أحداً من أفراد الشيعة يتنازعون على حطام الدنيا، فأعطهم ما يريدون في سبيل أن تبقى قلوبهم مؤتلفة.
والواقع أن الأئمة يهدفون من ذلك، إيجاد مجتمع متآلف متحاب، و يهتمون من تكوين ذلك المجتمع أشد الاهتمام، فعليكم بالتآلف حتى يخرج الإمام (ع ) ويلقانا له إن شاء الله، شيعة أكفاء.
و لعل السبب في موت البعض قبل خروج الإمام الحجة(ع ) أنه لا مصلحة من بقائه إلى ذلك الزمان، بل قد يكون وجوده إلى وقت خروجه ضرر، فيما لو أعترض على الإمام أو أنكره.
نرجو من الله أن يغفر لنا ذنوبنا و ذنوبكم، بحق محمدٍ و آله الطاهرين و أن يعيننا على إصلاح أنفسنا، لنكون أكفاءً؛ حتى نصير من رجالات تلك الدولة الحقيقة الشرعية الإلهية التي يكون قائدها الإمام صاحب العصر و الزمان صلوات الله عليه و آله.
نـــــــسألكم الـــــــــدعاء خالد الاسدي