السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
موجبات الخشوع :
وبعد أن وفَّقنا الله تعالى لرفع الموانع والعقبات الموجودة أمامنا للحصول على التركيز والخشوع في العبادة ، يأتي دور الحديث عن العوامل الإيجابية في إيجاد حالة التوجه والإنقطاع إلى الله عزَّ وجَلَّ في العبادة عموماً وفي الصلاة بوجه خاص .
1. الإيمان واليقين :
إن الشرط الأول والأساس لتحصيل حالة الخشوع والإنقطاع إلى الله عزَّ وجَلَّ إنما هو تحصيل الإيمان واليقين ، فالإيمان هو الذي يجعل الأرضية خصبة لنمو روح الخشوع والتوجه التام إلى الله ، ولولا الإيمان لم يكن للخشوع من معنى كما هو واضح ، وكلَّما إزداد الإنسان إيماناً إزداد خشوعاً .
وواضحٌ أيضا بأن الإيمان إنما يزداد عن طريق زيادة معرفة الإنسان بالله سبحانه وتعالى .
2. التخلّص من كل ما يُشتِّتُ الفكر ويُشغل الذهن :
يجب أن لا ننسى بأن من أسباب شرود الذهن وعدم التركيز حين الصلاة والعبادة و إنعدام حضور القلب لدى المصلي هو إنشغال فكره بالمشاكل التي تقلق بالَه ، أو تعلُّق قلبه بما يهمه من أمور دنياه ، فما أن يدخل في صلاته إلا وتتوارد عليه الأفكار والمشاكل المختلفة وتتجاذبه المغريات الكثيرة التي تُحيط به ، فكم من مؤمن حريص على أداء صلاته بحضور القلب منعته أفكاره من الوصول إلى هدفه السامي ، وما أن يُتمُّ صلاته حتى يكتشف بأن روحه لم تكن في الصلاة بل كانت خلال فترة الصلاة سارحةً في وديان الخيال والآمال والتصورات ، أو يجد أنه كان يُتابع مسلسلاً تلفزيونياً ، أو مباريات لكرة القدم ، أو كان يعقد صفقة تجارية مبرحة ، إلى غير ذلك .
ما هو الحل ؟
لكي يتخلَّص المُصلِّي من أمثال هذه الأفكار ويتمكَّن من الإقبال بقلبه كُلِّه على الله ـ حسب ما وَرَدَ في الحديث [10]ـ لا بُدَّ له من قطع الصلة بينه و بين كل ما يدور حوله حال كونه في الصلاة ، وهذا الأمر لا يتسنى له حتى يُعطي الصلاة حقها .
فقد رَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ الإمام عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السَّلام ) أنه قَالَ :
" ... وَحَقُّ الصَّلَاةِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا وِفَادَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتَ فِيهَا قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ قُمْتَ مَقَامَ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْحَقِيرِ الرَّاغِبِ الرَّاهِبِ الرَّاجِي الْخَائِفِ الْمُسْتَكِينِ الْمُتَضَرِّعِ الْمُعَظِّمِ لِمَنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَتُقْبِلَ عَلَيْهَا بِقَلْبِكَ وَتُقِيمَهَا بِحُدُودِهَا وَحُقُوقِهَا .. " [11] .
فقد رَوى حَمَّادُ بْنِ عِيسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جعفر بن محمد الصَّادق ( عليه السَّلام ) أنه قَالَ :
" لِلصَّلَاةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدٍّ " [12] .
نعم للصلاة الكاملة والتامة شروط وآداب ينبغي معرفتها والمواظبة عليها حتى تتوفر الأجواء المناسبة للصلاة بإبتعاد الإنسان عن كل ما يُشغل فكره وإهتمامه وينقطع عنها بصورة تامة أثناء مناجاته لرب العالمين .
وحالة الإنقطاع هذه يمكن تحصيلها عن طريق الالتزام بالمستحبات التي ترتبط بمقدمات الصلاة كالوضوء والأذان والإقامة ولباس المصلي ومكانه وغيرها .
من مميزات هذه المستحبات والآداب أنها تُبعد الإنسان عن تعلُّقاته الدنيوية رويداً رويداً ، وتهيؤه للدخول في الصلاة بقلب خاشع شيئاً فشيئاً .
أما الذي لا يواظب على هذه المستحبات ويدخل في الصلاة فجأةً من دون أي مقدمات إنما يعطي الضوء الأخضر للشيطان ويُمكِّنه من نفسه لكي يسلُب منه التوجه والخشوع ، ذلك لأنه لم يقطع صلته بَعدُ بما قبل صلاته من أفكار وأعمال ، ولم يهيء نفسه للدخول في الصلاة كما ينبغي .
لكي نُقدم مثالاً لذلك نُذكِّر المؤمنين والمؤمنات بالمواظبة على دعاء الوضوء الذي له أثرٌ فعال في إبعاد الإنسان عن الأجواء السابقة للصلاة و قطع شريط الأفكار ، كما أن لهذا الدعاء أثراً غريباً في خلق الأجواء الروحية المناسبة للدخول في الصلاة ، وإليك الدعاء :
رُوي عن الإمام جعفر بن محمد الصَّادِقُ ( عليه السَّلام ) أنه قال : " بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ ائْتِنِي بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ أَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدٌ بِالْمَاءِ ، فَأَكْفَأَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ قَالَ :
بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَجِساً .
قَالَ : ثُمَّ اسْتَنْجَى فَقَالَ :
اللَّهُمَّ حَصِّنْ فَرْجِي وَأَعِفَّهُ وَاسْتُرْ عَوْرَتِي وَحَرِّمْنِي عَلَى النَّارِ .
قَالَ : ثُمَّ تَمَضْمَضَ فَقَالَ :
اللَّهُمَّ لَقِّنِّي حُجَّتِي يَوْمَ أَلْقَاكَ وَأَطْلِقْ لِسَانِي بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ .
ثُمَّ اسْتَنْشَقَ فَقَالَ :
اللَّهُمَّ لَا تُحَرِّمْ عَلَيَّ رِيحَ الْجَنَّةِ وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يَشَمُّ رِيحَهَا وَرَوْحَهَا وَطِيبَهَا .
قَالَ : ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ فَقَالَ :
اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَسْوَدُّ فِيهِ الْوُجُوهُ وَلَا تُسَوِّدْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ فِيهِ الْوُجُوهُ .
ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَالَ :
اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَالْخُلْدَ فِي الْجِنَانِ بِيَسَارِي وَحَاسِبْنِي حِسَاباً يَسِيراً .
ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَقَالَ :
اللَّهُمَّ لَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِيَسَارِي وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِي وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّي مِنْ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ .
ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ فَقَالَ :
اللَّهُمَّ غَشِّنِي بِرَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ وَعَفْوِكَ .
ثُمَّ مَسَحَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ :
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ وَاجْعَلْ سَعْيِي فِيمَا يُرْضِيكَ عَنِّي يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ .
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ :
يَا مُحَمَّدُ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي وَقَالَ مِثْلَ قَوْلِي خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكاً يُقَدِّسُهُ وَيُسَبِّحُهُ وَيُكَبِّرُهُ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثَوَابَ ذَلِكَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [13] .
هذا والمتدبَّر في هذا الدعاء المتعمَّق في معانيه يلمس الأثر السريع له في معالجة حديث النفس ، خاصة إذا أضاف له آثار سائر الآداب والمقدمات كالأذان والإقامة وغيرهما .
__________________
يامهدي ... فـ هذي أيادينا تعلّقتْ بـ حبلِ السماء تهزّ بابَ العطف والوجود
ليسّاقطَ ثمرُ الشفاعةِ رطباً جنيّاً يحيي قلوبَ السائلين
والباحثين في ليلة النصف عن سبلِ النجاة