رد: السيرة والسنة ومصدرهما؟؟؟؟؟؟
كيف يجوز التقول بذلك مع ما نعلم ويعلمه الخبراء أن لكل من الفريقين أسلوبا خاصّا في طرق تحصيل الحديث ونقده حيث يحتاطان في أخذ الحديث تماما حسب المعايير العلمية المقبولة لديهما، وعندهما علم باسم "مصطلح الحديث" أو "دراية الحديث"، ولهما كتب ومؤلفات ومصطلحات في أقسام الحديث وأحكامه، وما يعتبر منه ومالا يعتبر. وهناك علم آخر باسم "علم الرجال" لتوثيق الرواة وللجرح والتعديل وتمييز الصادق عن الكاذب بين الرواة والأصيل واللصيق من الروايات.
والحق أن ذلك يعدُّ مفخرة للإسلام والمسلمين حيث أنهم يحتاطون ويستوثقون تماما في أخذ الحديث ورده، وفي تصحيحه وتضعيفه بما لا يوجد عند ملة أخرى عملا بقوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)(7) واعتبارا بما ثبت متواترا عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار".
ونحن نعلم ما تحمَّله السابقون في هذا السبيل من الجهود الجبارة، من غير فرق بين السنة والشيعة، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة نعتقد أن الباب بعد مفتوح أمام الباحثين والخبراء، وأنه بقيت على عاتقهم متابعة السلف في تنقيح الأحاديث، وأن لا يزعموا أن السلف بلغوا نهاية المطاف، وأنه لم يترك الأول للآخر شيئا، كلا.
كما أن الواجب علينا جميعا أن لا نكتفي ولا نغتر بما ثبت من الحديث لدى طائفتنا، وعن طريقتنا خاصة، تاركين ما جاء عن طريق الآخرين، وما ثبت عندهم. فمن كان له خبرة أو إلمام بعلم الحديث يعلم علما يقينا ويعترف، أو لابدّ له أن يعلم ويعترف في مجال الحديث بالحقائق التالية:
1- رواة الحديث من الشيعة والسنّة كانوا مختلطين ومشاركين معا في تحمّل الحديث ونقله منذ عصر الصحابة إلى أواخر القرن الثاني، فكان يأخذ بعضهم عن بعض أو يأخذون معا عن شيخ واحد يوافقهم في الرأي أو يخالفهم، ولم يكن اختلاف المسلك والهوى يُفرّق بينهم في أخذ الحديث عن الشيوخ وفي تعاطي العلم بينهم.
2- جماعة كبيرة من رواة حديث أهل السنة أمثال محمد بن شهاب الزهري، والإمام مالك بن أنس، والإمام أبي حنيفة، والإمام الأوزاعي، والثوري، إلى عشرات بل مئات غيرهم تعلَّموا الحديث عن الأئمة من آل البيت، كعلي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وابنه جعفر الصادق (عليهم السلام)، فقد جاءت أسامي هؤلاء الأكابر في قائمة رجال الأئمة، ولاسيّما رجال الإمام الصادق في (كتاب الرجال) للشيخ الطوسيّ (385 - 460) حيث تجاوز عدد رجال الصادق في هذا الكتاب 3700 شخص وأكثرهم في رأيي كانوا من أهل السنة. والمتتبع في كتب السيرة والسنن والتفسير لأهل السنة يقف على آلاف الأحاديث في شتّى المواضيع، مروَّية عن طريق أهل البيت. وقد ألفة الكتب باسم "حديث العترة عن طريق أهل السنة".
3- إنّ جماعة كبيرة من رواة الحديث عند الإمامية عن الأئمة من آل البيت كانوا من أهل السنة أيضا مثل: السكونيّ، وأبي صلت الهرويّ، وسفيان الثوري، ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهم. وقد عملت الإمامية برواياتهم ، فالسكونيّ وحده روى معظم الفقه عن الإمام الصادق، وكان له كتاب لم يصل إلينا بعينه، إلا أن رواياته مبثوثة في أبواب الحديث، ويرجع إليها الفقهاء ويتمسَّكون بها، ويعتمدون عليها في الفتيا.
4- إضافة إلى ذلك كلّه لا ريب في أن عليّا (عليه السلام) والذين كانوا معه من الصحابة والتابعين هم في عداد رواة الحديث لدى السنة والشيعة كليهما. ففي مسند أحمد يوجد 820 حديثا رواها الرواة عن عليّ عن النبي (صلى الله عليه وآله) كما أن الشيعة أيضا تروى قريبا من هذا العدد من الحديث، وربما أزيد منه بأسانيدهم عن هذا الإمام. فالإمام علي (عليه السلام) بمثابة "مجمع البحرين" يجتمع عنده حديث الشيعة وحديث السنة، هذا يروي عنه كصحابي جليل بل من أعلمهم، وكرابع الخلفاء الراشدين، وذاك يروي عنه كإمام مفترض الطاعة، وكأكبر من حمل علم النبي (صلى الله عليه وآله).
5- وأخيراً من اطلّع على تلك الحقائق لا يشك في أن التفقه لا يتم والاجتهاد لا يتكامل، واستفراغ الوسع - على حد تعبيرهم في استنباط الأحكام - لا يحصل إلا بالرجوع إلى روايات الفريقين الموثوق بها عندهم، وعرض بعضها على بعض وعرض الجميع على كتاب اللّه. وبدون ذلك لا يحصل الوثوق بالأخبار، ولا يجوز الفتيا بها في الأحكام، ولا تركن النفس إليها في العقيدة والشريعة، ولا في التفسير والسيرة هذا موجز الكلام في السنة باعتبارها عدل الكتاب.
ثانيا: السنة قبال البدعة
وجاءت السنة قبال البدعة في الروايات وعلى لسان علماء الدين. فقد جاء في حديث ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله): "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة بالبدعة"(8) وهناك حديث معروف: "ما تركت سنة إلا وقد عملت بها بدعة"(9) وعن الإمام علي (عليه السلام): "وما أحدثت بدعة إلا تركت بها سنة... إن عوازم الأمور أفضلها وإن محدثاتها شرورها"(10).
والسنة بهذا المعنى هي ما كان له أصل ثابت في الشريعة كتابا أو سنة، والبدعة ما ليس له أصل في الشريعة رأسا. وقد عبرت عن البدعة في الحديث بالأمور المحدثة: "وإياكم ومحدثات الأمور"(11) وفي حديث عايشة عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(12).
والبحث المستوفى بشأن السنة والبدعة يستدعي مقالا وقد ألقينا خطابا بهذا الشأن في بعض المؤتمرات. وموجز الكلام أن المسلمين جميعا متفقون على الأخذ بالسنة ورفض البدعة، لا خلاف بينهم في ذلك إطلاقا بشكل كليّ وإنّنا لا نجد مسلما يعتقد جواز الأخذ بالبدعة، بدل السنة، إنما الخلاف في مصاديق السنة والبدعة، وهذا الخلاف قديم وعريق بين الأمة في بعض المسائل الفقهية المعروفة كالقصر والإتمام في عرفات، وتقديم الخطبة في صلاة العيد وغيرها.
وجاء ابن تيمية في القرن الثامن فحمل على أتباع المذاهب الإسلامية جميعا بشأن التبرك بآثار النبي والأولياء والتوسُّل بهم، وبناء القُبب على قبورهم، وشدّ الرحال إليها، وما إلى ذلك. وقامت القيامة ضده من قبل علماء المذاهب شيعة وسنة، وتبودلت الكتب والرسائل بينهم وبين ابن تيمية وتلميذه ابن القيِّم وأتباعهما، ولكن الخصام خف ولم يدم وكاد أن يزول، ولكنه اشتد من جديد بعد دعوة محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، ولا يزال البحث بين أتباع ابن عبد الوهاب وبين غيرهم وهم جل الأمة يثور بين حين وآخر، تحدوه دوافع عقائدية أو سياسية.
ثالثا: السنّة قبال الواجب والفريضة
قد تقال السنة بمعنى المستحب في قبال الواجب، ففي الصلاة والوضوء والغسل، كما في سائر العبادات توجد واجبات ومستحبات، فالمضمضة والاستنشاق في الوضوء مستحبان وغسل الوجه واليدين واجبان، والسنة بهذا المعنى أيضا مأخوذة من الروايات، وهو مصطلح عند فقهاء المذاهب، كما أن السنة قد تستعمل في قبال الفريضة فيراد بالفريضة ما ثبت فرضه بالكتاب، وبالسنة ما ثبت في سنة النبي. وان كان واجبا فيطلق على الأول فرض اللّه كالركعتين الأوليين من الرباعيّة، والثلاثيّة، وعلى الثاني فرض النبي، كالركعتين الأخيرتين في الرباعية والركعة الثالثة في المغرب. والسنّة بهذا المعنى توجد عند الحنفية.
ونظراً إلى ذلك، قد تتصف السنة بالوجوب فيقال: "غسل الجمعة سنة واجبة" يراد به أن غسل الجمعة ليس من فرض الله كغسل الجنابة، إنما هو من فرض النبي (صلى الله عليه وآله) أو يراد به أنه سنة مؤكدة لا ينبغي تركها. وبهذا جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): "السنّة سنتان: سنة في فريضة، الأخذ بها هدىً، وتركها ضلالة، وسنة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها خطيئة"(13).
رابعا: السنة قبال الشاذّ النادر
قد يطلق على السيرة المستمرة بين المسلمين أنها سنة، وعلى ما ليست كذلك أنه ليس سنة. ولا ريب أن هذا المعنى مستحدث لا أصل له في الكتاب والسنة صريحا إلا أنه لا باس بإرجاعه إلى السنة بالمعنى الأول اعتبارا بأن ما شاع بين المسلمين بما هم مسلمون له أصل من الشريعة، ومن سنة النبي بالذات، وأنه لو كان محرما في الشريعة لما شاع بين الأمة. وعندنا أن الصواب في هذا الإطلاق حمل السنة على معناها اللغوي دون الشرعي، والسنة بهذا المعنى والعرف سيّان، مع فارق بينهما أن السنة هذه تنسب إلى المسلمين بما هم مسلمون، والعرف ما عرفه الناس العقلاء لا دخل للإسلام فيه رأسا.
الهوامش:
1- سورة الحشر: الآية 7.
2- الكافي ط طهران ج 1 / 59.
3- نفس المصدر / 69.
4- نفس المصدر / 59.
5- التاج الجامع للأصول ط طهران ج 1 / 64.
6- الموطأ، ط كتاب الشعب، القاهرة / 560.
7- سورة الحجرات: الآية 6.
8- جامع العلوم والحكم لابن رجب / 332 .
9- وفي كتاب الوافي ط اصفهان ج 1 / 260 عن علي (عليه السلام) : ما ابتدع أحد بدعة الا ترك بها سنة .
10- نهج البلاغة خ 145 .
11- جامع العلوم والحكم / 335 .
12- نفس المصدر / 81 .
|