تفسير بعض من آيات سورة البقرة ( 18 )
109 – (وَدَّ ) أي تمنّى (كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني من اليهود (لَوْ يَرُدُّونَكُم ) أيها المسلمون (مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ ) بمحمّد (كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ) يعني من عند قومهم وأبناء دينهم ، ومثال هذا قوله تعالى في سورة التوبة {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني من قومكم و عشيرتكم . وذلك أنّ حي بن أخطب مع جماعة من اليهود دخلوا على النبيّ وتباحثوا معه ، ولَمّا خرجوا سألوا حييّ : "ما تقول في محمّد هل هو نبيّ ؟ " فقال : "هو هو"، فقالوا : "أتؤمن به وهو من العرب وليس منّا ؟ " فقال : "أنا عدوّه إلى الموت ." (مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) في محمّد ، وذلك قول حييّ بن أخطب : "هو هو" لأنّه عرفه باسمه وأوصافه وأنّه النبيّ الموعود ثمّ عاداه . ثمّ أخذ سبحانه في خطاب النبيّ والمسلمين فقال (فَاعْفُواْ ) عن أغلاطهم التي تكلّموا بِها (وَاصْفَحُواْ ) عنهم ماداموا لو يتعرّضوا لكم بأذى ولم يحاربوكم (حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) يعني حتّى يأتي أمر الله فيقاتلهم إن شاء قتالهم ، وأمر الله هو المهدي (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فهو القادر أن يهديهم إلى الإسلام وهو القادر على إهلاكهم . 1
------------------------------------------------------------------
1 [وهلاكهم هو الكائن كما قال السيّد المسيح "فإنّه سوف تأتي أيام عليك ويحيط بك (أورشليم ) أعداؤك بمتراس ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كلّ ناحية (هذا بعد وحدة أمة العرب) ويقلبونك وبنيكِ فيكِ ولا يتركون حجراً على حجر " إنجيل لوقا 19: 43-44 – المراجع .]
118 – (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) وهم مشركو العرب لأنّهم ليسوا أهل كتاب فيعلمون به (لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ ) فيقول لنا إنّ محمّداً صادق في دعواه فاتّبعوه (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) أي معجزة تكون دلالة على صدقه كما جاء موسى بالعصا ، فردّ الله تعالى عليهم قولهم فقال (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ) أي من تقدّمهم من الأمم الماضية الذين اعترضوا على الرسل وطلبوا المحالات (مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ) أي قالوا مثل قول المشركين من العرب وإنّ هؤلاء الماضين لَمّا رأوا الآيات التي طلبوها من رسلهم قد حصلت لم يصدّقوا بِها ولم يؤمنوا بل قالوا هذا سحر مبين ، وكذلك أنتم يا مشركي العرب لو أعطيناكم ما طلبتم من المعجزات لَما آمنتم ولَما صدّقتم بل لقلتم هذا سحر مبين . لقد تشابهت في ذلك آراؤكم واتفقت أقوالكم وما ذلك إلاّ لجهلكم وعنادكم .
وأمّا الذين يفهمون ويعلمون فإنّهم يوقنون ويصدّقون بمجرّد النظر إلى ما خلق الله في الكون من شمس وقمر وماء وشجر وشعر ووبر وطين ومدر . فكيف لا تؤمنون وقد أنزلنا القرآن كلّه آيات بيّنات تدلّ على صدق محمّد ، ألم تكفكم هذه الآيات فتفكّروا فيها وتتدبّروا معانيها ؟ وقوله ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) يعني تشابهت في الكفر والقسوة والاعتراض على الأنبياء والتعنّت والعناد (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ ) يعني آيات القرآن الدالّة على صدق محمّد (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) بِها .
120 – كان النبي يسامح اليهود والنصارى ويتطلّب رضاهم ليدخلوا في دين الإسلام ، فعاتبه الله تعالى على ذلك فقال (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) أي لا يرضون عنك يا محمّد مهما سامحتهم حتّى تتّبع دينهم (قُلْ ) يا محمّد لهم (إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى ) أي إنّ القرآن هو الهدى ، ومعناه إنّ القرآن هو الذي يهديكم إلى طريق الحقّ فاتّبعوه ، فالهدى يريد به القرآن والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، ثمّ أخذ سبحانه يحذّر نبيّه من كيدهم فقال (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ) الذي أعلمناك به (مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ ) يتولّى أمرك (وَلاَ نَصِيرٍ ) ينصرك عليهم ، لأنّك لو اتّبعت أهواءهم لخذلوك ثمّ قتلوك كما قتلوا يحيى وزكريّا وغيرهم من الأنبياء .
وملخّص الآية يقول الله تعالى : يا محمّد لا تتطلّب رضا اليهود ولا النصارى لكي يدينوا بدين الإسلام بل ادعهم إلى القرآن وجادلهم بالحكمة والموعظة فمن اهتدى منهم فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنت عليه بوكيل .
=================
منقول من كتاب
المتشابه من القرآن
لـ( محمد علي حسن الحلي ) رحمه الله تعالى
|