ومضت شهور . . اشترى معاوية خلالها بأمواله وهداياه كثيراً من زعماء القبائل، ممّن اعتاد على قبول الأموال والرّشاوي، وممّن هو على استعداد لبيع نفسه ودينه وضميره بثمنٍ بخسٍ. لقد أدرك أولئك الزّعماء أنّ طريق الإمام هو طريق أبيه أميرالمؤمنين عليهما السلام، وأنّ الطريق الآخر هو طريق المغانم والكسب الوفير، فاختاروه، وباعوا دينهم بدنياهم، وبأبخس الأثمان !!
الخيار بين الدين والدنيا
تحرّك معاوية بجيش كبيرٍ نحو الكوفة معقل الإمام (ع). وكان الإمام يسعى بدوره لدفع الكوفة إلى الجهاد، ويلقى في سعيه العناء والتعب، لأنّ القليلين كانوا على استعدادٍ لذلك، وكانوا فرقاً لكلّ منهم رأي مختلف، وإنّ جيشاً يجري تجميعه من مثل هؤلاء، لهو جيش عاجز عن خوض حربٍ جدّيّةٍ وجهاد صادقٍ.
عيّن الإمام (ع) ابن عمّه عبيد الله بن عبّاسٍ لقيادة جيشه، ونحن نعلم أنّ عبيد الله هو من قريش، يعرفه جميع قادة الجيش وزعماء القبائل ويحترمونه ويطيعون أوامره. وكان من أوائل الذين بايعوا الإمام الحسن (ع)، بالإضافة إلى أنّ قلبه كان يطفح كرهاً وعداوةً لمعاوية، الذي قتل أبناءه . .
بعث الإمام بعبيد الله على رأس جيشٍ من اثني عشر ألفاً نحو معاوية، بينما توجّه هو بجيش كبير نحو المدائن، وأقام معسكره هناك؛ كجزءٍ من خطّةٍ للتّغلّب على جيوش معاوية الجرّارة . .
لم يكن معاوية قد نسي مرارة حرب صفّين، ولا تزال ذكرى سيوف أصحاب عليّ (ع) تصيبه بالارتجاف؛ لذا فقد صمّم على أن يتوسّل الحيلة والخداع في حربه هذه؛ فأرسل موفداً إلى عبيد الله خفية يعرض عليه ألف ألف درهمٍ (مليون درهم)، إن قبل أن ينفض يديه من هذه الحرب، على أن يدفع له نصف المبلغ في معسكره إذا أتى إليه، والنصف الآخر في الكوفة.
بقي عبيد الله أيّاماً وهو حائر في أمره، فهو يعلم أنّ قلّةً من الناس قد استجابوا لدعوة الإمام، بينما يقود معاوية جيشاً لجباً، وتصوّر أنّ جيش معاوية سينتصر لا محالة، فلم التردّد؟ والعرض فيه إغراء كبير؟
صمّم عبيد الله أخيراً، واتّخذ قراراً ملؤه الخجل والعار؛ وفي منتصف تلك الليلة. انسحب مع مجموعةٍ من أعيان الجيش وقادته نحو معسكر معاوية . . لقد اختار أن يبيع الله ورسوله وإمامه ودينه بثمنٍ رخيصٍ، وأن يفوز بوصمة عارٍ لن تفارقه إلى الأبد . .
اجتمع الناس لصلاة الصّبح. وانتظروا عبيد الله كي يؤمّهم في الصلاة، حيث من المقرّر أن ينطلقوا بعد الصلاة إلى القتال. لكنّ انتظارهم ذهب عبثاً، فعبيد الله لم يحضر إلى الصلاة . . ثم عرفوا الحقيقة إذ سمعوا منادياً من معسكر أهل الشام يقول: أيّها الناس؛ تفرّقوا وعودا إلى بيوتكم، فإنّ عبيد الله وأنصاره في معسكر معاوية، وقد اختاروا الصّلح على الحرب، فلا خير في قتال الإخوة
كان عبيد الله الرجل الأوّل بعد الإمام في إمرة الجيش. وكانت خيانة هذا الرجل «الكبير» وهذا «الفقيه» المعروف، باعثاً على تخاذل الكثيرين، كما خدعٍ آخرون بدعوة السلام الكاذبة، وشرعوا يتفرّقون كلّ في اتّجاهٍ.
أحسّ جماعة من أنصار الإمام المخلصين بالخدعة، وحاولوا إعادة المتخاذلين ولمّ الصّفوف، لكنّ محاولتهم باءت بالفشل. وبقيت قلّة صادقة الإيمان ثابتةً في موقفها، وقد نذر أفرادها أنفسهم للموت في سبيل الحقّ، وأرسلوا إلى الإمام يطلبون إمدادهم بالرّجال.
كان الفارّون والمتخاذلون يتّجهون نحو المدائن، وينشرون في طريقهم أخباراً كاذبةً مفادها أنّ جيش معاوية قد انتصر على طليعة جيش الإمام، وغدت هذه الأنباء عذراً لأولئك الذين خرجوا مع الإمام، رياءً وعلى كرهٍ منهم، وحجّةً تذرّعوا بها في تخاذلهم وعودتهم إلي الكوفة. إنّ القصّة تعيد نفسها، قصّة الخوارج مع أميرالمؤمنين (ع)، قصّة أولئك الذين يخذلون إمام زمانهم، لا بل يقتلونه، فواعجباً يدّعون أنّهم حماة الإسلام والحقّ، ثمّ يفتحون الطريق واسعاً أمام أعداء الإسلام والحقّ
القصّة تعيد نفسها اليوم . . في صورة امتحانٍ كبير، يتمّ فيه الفرز جيّداً، فالمنافقون ضعاف النفوس عادوا أذلّةً إلى بيوتهم، والأصحاب الأوفياء الصادقون ثبتوا في مواقعهم آباةً أعزّة، وطريق الشهادة أمامهم واضح مستقيم لا عوج فيه.
الخيار الصّعب
لم يبق أمام الإمام الآن غير طريقين لا ثالث لهما، فإمّا القتال والتّضحية بأولئك الأوفياء المخلصين، وإمّا الرّضوخ لشروط الصلح، والصبر على الألم، طريق صعب . . لكنّ فيه خلاصاً لأولئك الأصحاب البررة من قتل لا طائل تحته، واختار عليه السلام وقف القتال على شروطٍ، اختار بقيّة عليّ ما اختاره أبوه - عليهما السلام - قبل خمس وعشرين سنةً، ونفض يديه - مكرهاً - من الاحتكام إلى القتال.
كان هذا اليوم - والحقّ يقال - أكثر أيّام المسلمين خيبةً ومرارةً، كان من السّهل اليسير على الإمام أن يأمر بمتابعة القتال، فيقاتل مع أصحابه حتى يقتلوا، إنّه ابن عليّ عليهما السلام، وليس هو بالذي يخشى الموت، لكنّه كان يدرك جيّداً أنّه لن يقتل حتى يتقدّمه أهله جميعاً إلى القتل، وأنّ أهله أيضاً لن يقتلوا حتى يسبقهم إلى الموت أنصارهم، دون أن تكون بقتلهم الفائدة المرجوّة في توعية المسلمين، لأنّ حقيقة الخلاف بين الحسن ومعاوية كانت ما تزال خافيةً على الكثيرين؛ وهذا هو عين ما كان معاوية يريده ويتمنّاه، كان طيلة حكمه في الشّام يدّعي ويوهم النّاس بأنّه حامي حمى الإسلام، وكان الناس يصدّقون ذلك، لأنّهم لم يكونوا قد كشفوا بعد خيانته للإسلام والمسلمين، وأنّه إنّما يرمي إلى تأمين مصالحه ومصالح عائلته، متوسّلاً بحمايته للإسلام في سبيل ذلك. هذه هي حقيقة الخلاف بين الرّجلين، فإذا قتل الحسن اليوم فلن يعرف الناس الحقيقة.
وهكذا . . وفي أكثر أيّام المسلمين ظلاماً، وحيث لم تكن - حتّى دماء الشهداء - لتجدي نفعاً في إيقاظ الأمّة من سباتها، قبل الإمام الحسن (ع) الصلح، وأعطى فرصةً ليومٍ آخر سيأتي . . يوم سيكتشف الناس فيه حقيقة معاوية، وحقيقة الخلاف، فيهبّوا عندها للقتال وللشهادة، بعد أن يكونوا قد عرفوا الحقيقة . .
قبل الإمام الصّلح بعد أن أخذ من معاوية عهداً اعترف فيه هذا بكثير من الحقائق التي كانت سبباً في وعي الناس وإدراكهم، وهذا ما كان يرمي إليه الحسن (ع)، وقد تعهّد معاوية بألاّ يعيّن وليّاً لعهده، فليس ذلك من حقّه، وأن يدع الشيعة وشأنهم فلا يتعرض لهم بقتلٍ أو أذيّةٍ، وأن يمنع أعوانه من شتم أميرالمؤمنين (ع)، وأن يدفع للحسن الخراج الذي هو حقّ له، وأمور غيرها . . تمّ الاتّفاق والتوقيع عليها، وتوقّف القتال، وعاد الإمام وأهله وأصحابه إلى الكوفة.
أحسّ أصحاب الحسن (ع) بالخيبة والخذلان، حتى تمنّى بعضهم أن لو تخطّفه الموت ولم ير هذا اليوم، واحتجّ الكثيرون على قبول الإمام بالصّلح ، وصدرت عن بعضهم أقوال غير لائقةٍ ، أمّا الحسين (ع) فقد كان الوحيد الذي تقبّل هذا الصّلح ولم يعترض عليه قطّ، مسلمّاً بحكم أخيه الإمام (ع)، وراضياً بصواب تصرّفه.
الحقيقة أنّ الكثيرين لم يلتفتوا إلى أمر هامّ، وهو أنّ معارضتهم للإمام هي في حكم معارضتهم للقرآن الكريم، الذي يعرّفنا بعصمة أهل البيت عليهم السلام، وأنّ ما يقرّرونه من صلح أو حربٍ أو أمرٍ أو نهيٍ، فهو أمور مبرمة مقدّسة. وأنّ اعتراضهم هو ردّ على رسول الله إذ يقول: الحسن والحسين إمامان إن قاما وان قعدا». لكنّ الناس يتسرّعون بالحكم دون رويّةٍ أو تفكيرٍ.
توجّه معاوية بعد ظفره نحو الكوفة، معقل أميرالمؤمنين وأصحابه، وهناك وقف على منبر مسجدها الكبير، يملأ الغرور أعطافه، وشرع يتناول أصحاب عليّ (ع) بكلامٍ بذيءٍ غير لائق، ثمّ تناول بتقريعه رؤساء القبائل، فغدر بهم بعد أن كان قد أبرم معهم المواثيق، وصار يحدّدهم بالاسم والإشارة، وخلّفهم في وضعٍ فاضحٍ ذليلٍ، لا يحسدون عليه.
وهذه هي عاقبة الخيانة على أيّ حالٍ، فالذّين أقدموا على خيانة الإمام (ع) لم يظفروا حتّى بعطفٍ بائسٍ من معاوية. توجّه الإمام وأهله بعد هذه الأحداث نحو يثرب، حيث استقرّوا هناك، وتسلّم بنو أميّة حكم الكوفة، وفي مكان عليّ وعلى منبره حلّ زياد ابن أبيه ومن بعده ابنه، واضطرّ أولئك الذين كانوا ينتحلون الأعذار لتبرير مواقفهم من حكم أميرالمؤمنين عليّ (ع)، ورفضوا قبول حكم العدل والتقوى من ابنه بعده، اضطرّوا لأن يحنوا هاماتهم تحت سيوفٍ ملطّخة بالدّماء، وعرفوا - ولكن متأخّرين - قدر النّصائح التي رفضوها، كما عرفوا أيّ بلاءٍ جلبوه لأنفسهم، وندموا على ما قدّمته أيديهم، لكنّ الندّم المتأخّر لا خير فيه.
كان أولئك المنحرفون يعلنون العصيان باستمرارٍ، ولأسباب وأعذارٍ واهيةٍ، طيلة خمس سنواتٍ من حكم الإمام عليّ (ع) وبضعة شهورٍ من حكم ابنه الحسن. لكنّهم الآن قعدوا يلعقون جراحهم، وتركوا لمعاوية الحبل على غاربه، يفعل ما يشاء، دون أن يزعجوه بحرفٍ أو يعترضوه بكلمةٍ، فلا طلحة ولا زبير بينهم يرفعان لواء التمرّد والعصيان، ولا خوارج يثيرونها فتنةً هوجاء عمياء، أمّا المنافقون فحدّث عنهم ولا حرج. في تلك الفترة السّوداء الكالحة من التاريخ، كان أصحاب عليّ فقط، هم الذين تصدّوا وحدهم لحكم الطّغيان، وقدّموا أرواحهم في هذا السبيل، أمّا الأجراء أصحاب الجعالات، فقد زحفوا على وجوههم وبطونهم، ينثرون المديح للحكّام دون أن ينسوا علياً عليه السلام من سبابهم وشتائمهم، والكلام الذي لا يصدر إلاّ عن أمثالهم.
كم هو يسير أن يقف المؤمنون في وجه جبابرة التاريخ، غير أنّ الوقوف في وجه «معبودٍ» أجمع الكثيرون على «عبادته» فأمر فوق الطّاقة
وأخيراً . . وحين أدرك معاوية اقتراب أجله، خشي أن تنتقل الخلافة بعده إلى الحسن، فتضيع جهوده التي أفنى عمره في سبيلها، ويعود أهل البيت إلى حقهم، وهنا الطّامّة الكبرى، فعزم على دسّ السمّ للإمام الحسن (ع)، ونفّذ ما عزم عليه، وقضى على الإمام مسموماً بيد زوجته، متنكّراً لكلّ عهدٍ أبرمه أو ميثاق أقسم عليه، وغمر الفرح باستشهاد الإمام قلب مروان عدوّ الله وعدوّ نبيّه، وقلوب كثيرين غيره، فلم يخجلوا من رشق تابوته بنبالهم عند تشييعه عليه السلام.
انصرف معاوية بعد ذلك إلى إكمال خطّته، فأخذ البيعة لابنه يزيد شارب الخمر، من أهل الشّام أوّلاً، ثم من أهل مكّة والمدينة، فضمن بذلك استمرار حكم بني أميّة، دون أن يجد من آل طلحة والزبير من يرفع في وجهه راية «الجهاد».
ألا ما أشبه اليوم بالأمس، فقد حال النّاس دون الإمام وحقّه اليوم، كما فعلوا مع أبيه بالأمس. وقطفوا - في الحالتين - ثمار عملهم ذلاً وخذلاناً. لقد بذل الحسن (ع) جهده في إرشادهم وتوعيتهم، لكنّه كان يعي حقيقة قوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم: {إنّك لا تهدي من أحببت، ولكنّ الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين}. كان يعلم أنّ للرّسول مهمّةً يؤدّيها، وهي إبلاغ رسالة ربّه إلى الناس، أحبّوا أن يؤمنوا بها أم لم يحبّوا، وكذلك فللإمام مهمّته أيضاً، وهي أن يرعى استمرار سيرة الرسول، ويحفظ الإسلام ويصونه بما يراه مناسباً، وهذا ما فعله عليه السلام، فقد سلك سبيلاً كشف للناس ما كان خافياً عليهم من حقائق، وبيّن للجميع أنّ الخطر على الإسلام يكمن في انخداع النّاس بالمظاهر الكاذبة للحكّام والقادة، الذين يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون غير ما يبدون، وعلّمهم أنّ صون الإسلام وصون وحدة المسلمين أمر يقتضي منهم الصّبر الجميل، كما صبر هو كثيراً على هضم حقّه، وصبر على ظلم بعض أصحابه له حين خاطبوه بقولهم: يا مذلّ المؤمنين لقد صبر وهو يعلم أنّ صبره إنّما هو في سبيل الله وعزّة المسلمين، فلا ضير فيه طالما أنّه يغرس بذور الثّورة على الظلم، ثورة أخيه الحسين، لقد كان عهده وصلحه جزءاً من ثورة الحسين، وحقّ فيه وفي أخيه عليهما السلام قول جدّهما الرسول الأمين صلّى الله عليه وآله:
«الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا»