يهدف هذا التحليل إلى تسليط الضوء على جذور هذه الأزمات وتداخلها من خلال منظور اقتصادي شامل، كما يقترح مجموعة من السياسات والإصلاحات لمعالجة نقاط الضعف الهيكلية وتحقيق الاستقرار والتنمية على المدى الطويل.
أولاً: الفساد المالي والإداري – خطر يهدد الدولة
الفساد في العراق ليس مجرد ظاهرة عرضية، بل أزمة منهجية متغلغلة في الإدارة العامة والسياسات الاقتصادية. وتشير التقديرات إلى أن مئات المليارات من الدولارات قد أُهدرت بسبب الفساد خلال العقدين الماضيين، ما جعل العراق يتصدر مراتب الفساد عالمياً، بحسب مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
أدى هذا الفساد المستشري إلى استنزاف خزينة الدولة، وشلّ قدرة الحكومة على تمويل الخدمات العامة الأساسية. وقد تضررت القطاعات الحيوية، بما في ذلك الصحة والتعليم والبنى التحتية والصناعة، بسبب عمليات الفساد والصفقات الوهمية والموظفين الوهميين. كما أن شبكات الفساد، المرتبطة غالباً بالأحزاب السياسية والمليشيات، تسيطر على مؤسسات الدولة، مما يقوض سيادة القانون ويعيق الرقابة الفعلية.
ثانياً: سوء الإدارة وهشاشة الاقتصاد الريعي النفطي
لا يزال الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل شبه كامل على النفط، الذي يمثل أكثر من ٩٥% من إيرادات الدولة. ويجعل هذا النموذج الريعي العراق عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية، مما يؤدي إلى فترات من الوفرة المالية تليها أزمات اقتصادية حادة. فعلى سبيل المثال، أدّى انهيار أسعار النفط عام ٢٠٢٠ إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ١١%، في حين شهد الاقتصاد انتعاشاً مؤقتاً عام ٢٠٢٢ بفضل ارتفاع الأسعار بنسبة ٩.٣%.
هذا الاعتماد المفرط على النفط يعرقل التخطيط الاقتصادي المتوسط والطويل الأمد، ويحول دون بناء بيئة اقتصادية مستقرة. وقد أخفقت الحكومات المتعاقبة في تنويع مصادر الدخل من خلال تطوير قطاعات الإنتاج مثل الزراعة، والصناعة، والتكنولوجيا.
وتزداد تعقيدات إدارة عائدات النفط بسبب الاتفاقيات الدولية بعد عام ٢٠٠٣، إذ تُودع عائدات النفط العراقي في حساب خاص في البنك الفيدرالي الأمريكي يُعرف بـ “Iraq-٢″، بموجب الأمر التنفيذي الرئاسي الأمريكي رقم ١٣٣٠٣، بذريعة حماية أموال العراق من الدعاوى الدولية. ورغم ما توفره هذه الآلية من حماية قانونية، إلا أن العديد من العراقيين يرون فيها انتقاصاً من السيادة الوطنية. وقد تم الاتفاق مؤخراً على إنهاء نافذة بيع العملة تدريجياً والانتقال إلى التحويلات المباشرة، ما قد يمهد لاستعادة العراق لسيادته المالية.
ثالثاً: البطالة والفقر – قنبلة اجتماعية موقوتة
تنعكس الآثار الاجتماعية للفساد وسوء الإدارة بشكل خطير على المجتمع العراقي. فقد بلغت نسبة البطالة ١٦.٥% مع بداية عام ٢٠٢٤، فيما وصلت نسبة الفقر إلى نحو ٢٢%، ما يعادل أكثر من ١٠ ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر.
وتفاقم هذه الأزمة آثار الحروب والنزوح، حيث يُقدّر عدد الأيتام بنحو ٦ ملايين، وعدد الأرامل بنحو ٢ مليون، بالإضافة إلى أكثر من ٤ ملايين شخص يعيشون في الأحياء العشوائية والمناطق المهمشة، دون خدمات أساسية مثل الماء النظيف والرعاية الصحية والتعليم.
يعتمد سوق العمل العراقي إلى حد كبير على التوظيف في القطاع العام، وهو قطاع متضخم وغير منتج ويعاني من الهدر والفساد. أما القطاع الخاص، فهو ضعيف ومحدود بسبب سوء البنية التحتية، والفساد الإداري، وصعوبة الوصول إلى التمويل. ويواجه الشباب الداخلون إلى سوق العمل مستقبلاً غامضاً، مما يعزز من احتمالات الهجرة، والاحتجاجات، والتطرف.
رابعاً: التوصيات – نحو اقتصاد resilient وشامل
لمعالجة هذه الأزمات المتشابكة، يجب أن يتبنى العراق خطة إصلاح وطني شاملة، تركز على تنويع الاقتصاد وإعادة بناء المؤسسات.
١. مكافحة الفساد
تأسيس هيئة مستقلة لمكافحة الفساد تتمتع بسلطة قضائية.
رقمنة الخدمات الحكومية والمشتريات العامة لتعزيز الشفافية. فرض التصريح الإجباري عن الذمة المالية للمسؤولين وتدقيقها.
٢. تنويع الاقتصاد
الاستثمار في الزراعة والصناعات الغذائية لخلق فرص عمل وتقليل الاستيراد. دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال برامج تمويل موجهة.
تطوير صناعات استراتيجية مثل الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والبناء.
٣. إصلاح سوق العمل
تحديث برامج التعليم المهني والتقني لتلبية احتياجات السوق. دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتوفير فرص عمل للشباب.
إطلاق برامج تشغيل مؤقتة في البنى التحتية والإسكان.
٤. الحماية الاجتماعية
توسيع برامج الدعم النقدي المشروط للأسر الأكثر فقراً. توفير الدعم السكني والخدمات الأساسية للمناطق المهمشة.
دعم برامج التأهيل الاجتماعي والنفسي للأيتام والأرامل والنازحين.
٥. إصلاح السياسات المالية والنقدية
إعادة هيكلة الموازنة العامة للتركيز على الاستثمار الرأسمالي بدلاً من النفقات التشغيلية. تعزيز استقلالية وكفاءة البنك المركزي العراقي.
مراجعة الإطار القانوني لإدارة عائدات النفط بما يعزز من السيادة الاقتصادية للعراق.
ختاما إن العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي. ورغم ضخامة التحديات المتعلقة بالفساد، والبطالة، والفقر، وسوء الإدارة، إلا أن التغلب عليها ليس مستحيلاً. فبوجود إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات مؤسسية شاملة، ورؤية اقتصادية شاملة وعادلة، يمكن للعراق أن يفتح صفحة جديدة نحو الاستقرار والازدهار.
إن طريق التعافي لا يتطلب الموارد المالية فقط، بل يحتاج إلى قيادة شجاعة، ومشاركة شعبية، وإيمان راسخ بالعدالة والإنصاف. عندها فقط، يمكن للعراق أن يستعيد مكانته كدولة مستقلة، مزدهرة، وذات سيادة كاملة.