((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة))
ربما هذا الموضوع شائك جدًا ، والإجابة علية نحتاج إلى تفكيك الآية الكريمة ، لكي يسهل علينا الإجابة قدر ما نفهم من سياق ما ورد فيها …تقسيم المقال إلى قسمين الأول فهم التمكين والصلاة الواردة في الآية الكريمة ،والقسم الثاني ربط تمكين الغرب وأمريكا بالآية الكريمة … تتجلّى الحكمة الإلهية في كتاب الله تعالى في اختيار الألفاظ وترتيبها، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ (الحج: ٤١). فما السرُّ في تقديم الصلاة بعد التمكين مباشرة؟ وما الرسالة الخفية وراء هذا الربط؟ ولماذا خُصّت الصلاة دون سائر العبادات؟
التمكين: امتحانٌ قبل أن يكون امتيازًا
التمكين في الأرض يعني منح السلطة والقدرة على إدارة شؤون الحياة وفق منهج الإلهي . وهو ليس غايةً بذاته، بل اختبارٌ لصدق العبودية، فالله عز وجل يُمكِّن لعباده ليختبرهم: أَيَشكرون أم يطغون؟ قال تعالى
(( أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ (٦) )) سورة الأنعام، وقوله تعالى (( وَلَقَدۡ مَكَّنَّٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ (١٠))) سورة الأعراف… وهنا يأتي دور الصلاة كأول مظهر من مظاهر الشكر والامتثال لإرادته.
الصلاة: حصن التمكين واستقراره
تقديم الصلاة بعد التمكين مباشرةً يُشير إلى أنها “الضمانة الأخلاقية، والارتباط الروحي ” للحاكم والمجتمع. فالصلاة ليست حركاتٍ جوفاء، بل نظامٌ متكامل يُذكِّر بالله في كل حين، ويُعزز المراقبة الذاتية، ويمنع الطغيان. وكأن الآية تُعلن: لا تمكين حقيقي دون أن تكون الصلاة عموده الفقري حقيقية ، فهي تُصلح القلب الفردي، فتنعكس على السلوك الجماعي.
لماذا الصلاة بالذات؟
١. أولوية روحية : الصلاة عماد الدين، وأول ما يُحاسَب عليه العبد، وهي الصلة اليومية بين العبد وربه. فالمجتمع الذي يُقيم الصلاة بشكل حقيقي يُقرّ بسيادة القيم الإلهية على المصالح الدنيوية.
٢. رمز الطاعة والانضباط : مواقيت الصلاة تُعلّم النظام، والإلتزام بها في الدولة المُمكَّنة يُعبّر عن انضباطٍ مؤسسي قائم على تقوى الله.
٣. وقاية من الفساد : ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ (العنكبوت: ٤٥). فالصلاة تحصينٌ للفرد والمجتمع من الانحراف ، مما يُعزز إستقرار الحكم.
الحكمة الخفية: مما فهمناه من الآية الكريمة أن التوازن بين السلطة والعبودية
الخطر الكامن في التمكين هو الغرور بالسلطة، فجاءت الصلاة لتُذكّر بأن العزة لله جميعًا. فالحاكم المصلّي — حقًا — لا يستبدّ، لأنه يعلم أنه عبدٌ قبل أن يكون حاكمًا. وهنا تظهر الحكمة الباهرة: جعل الصلاة (جسرًا بين العبودية والقيادة)، فلا تنفصل السياسة عن الروحانية في المنهج القرآني.
الصلاة: أساس المشروع الحضاري
الآية لم تقل “أقاموا الصلاة” فحسب، بل أتبعتها بالزكاة والأمر بالمعروف، لكن تقديم الصلاة يؤكد أنها البنية التحتية لأي مشروع إصلاحي. فالحضارة التي تُبنى دون صلة بالله تكون كالبناء على رماد أو على أرض ليس لها من قرار . يقول ابن كثير: «هؤلاء إذا نُصِّروا في الأرض لم يبطروا، بل أقاموا الصلاة… فدل على أن التمكين في الأرض إنما يُعطى لهؤلاء».
الصلاة مقياس النجاح التمكين في المنظور القرآني نجاحٌ مرتبط بالعبودية، فالصلاة هي المقياس. فالدول تبقى بعباداتها، وتسقط حين تفقد صلاتها الروحية بالقيم. وهنا تكمن العبرة الخالدة: أن التمكين الحقيقي هو تمكينُ القلوب قبل الأراضي.
الشطر الثاني من المقال : إذا كانت الآية تشير إلى العباد الصالحين ، كيف يفسر تمكين الغرب وامريكا ، علما أنهما لا يقيموا الصلاة لكنها متمكنين من الأرض؟ …
فالسؤال؛ يُثير إشكالًا ذكيًّا يتطلب تفكيكًا دقيقًا لمفاهيم “التمكين” و”القوة” و”النصر” في المنظور القرآني مقابل الرؤية المادية للعالم، وهذا يحتاج إلى توضيح عدة نقاط:
أولًا: التمكين في القرآن ليس مجرد سيطرة مادية القرآن يربط التمكين (بشرطٍ إلهي)، فهو ليس مُجرد هيمنة عسكرية أو اقتصادية، بل هو استخلافٌ في الأرض مرتبط بالعدل والإيمان: قال تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ (النور: ٥٥). فالتمكين الحقيقي – في المفهوم القرآني – (مقترنٌ بالاستقامة) ، أما “القوة المادية” المجردة فهي قد تكون “استدراجًا” كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: ٤٤))، أو اختبارًا للخلق (كقصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج).
ثانيًا: لماذا تبدو دول الاستكبار العالمي قوية ومتمكنة؟ … القوة المادية لدول الغرب وامريكا لا تعني – في الميزان القرآني – أنها “مُمكَّنة” بالمعنى الشرعي، بل هي قوةٌ مؤقتةٌ تحكمها سنن الإلهية في الصراع البشري، يقول تعالى:
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأَمْتَعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ﴾ (البقرة: ١٢٦).
فالقرآن يرى أن التفوق المادي (ليس دليل رضى الله)، وإلا لَما سقطت إمبراطوريات كسرى وقيصر، ولَما أنهار الإتحاد السوفيتي رغم عَظَمَة جبروته، وامريكا الآن مع الغرب على المحك ! .
ثالثًا: ما الفرق بين “التمكين الإلهي” و”الهيمنة المادية”؟
– التمكين الإلهي: يشمل البركةَ في القوة، والعدلَ في الحكم، والأمنَ الروحي والمادي، وهو تمكينٌ مُستدام لأن الله يؤيده: قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ (الأعراف: ٩٦).
– الهيمنة المادية : قائمة على الظلم والاستبداد (كحال فرعون و نمرود وسائر الطغاة)، أو على الإلحاد والانحلال (كبعض الحضارات المعاصرة)، وهذه – وإن طال أمدها – فهي مُعرَّضة للانهيار حين أجلها أي لا وقت معلوم ، لأن سنن الإلهية لا تُداوِم ظلم الظالم:
﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ (الكهف: ٥٩).
رابعًا: علينا أن فهم بعمق هل الغرب “مُتمكِّن” أم “مُستدرَج”؟ قد يُظهِر اللهُ لبعض الكافرين عَظَمة الدنيا استدراجًا لهم، كما في الحديث:
«إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» (رواه أحمد).
فالتمكين المادي للغرب – مع انحلاله الأخلاقي – قد يكون جزءًا من هذه السنَّة، خاصةً مع تنامي الاضطرابات الداخلية في مجتمعاتهم (كتفكك الأسرة، وارتفاع معدلات الاكتئاب، والفراغ الروحي والانتحار وغيرها )، وهو ما يُنبئ بأزمة كبرى ورهبة رغم القوة الظاهرية التي يروج لها الإعلام الموالي للاستكبار العالمي.
خامسًا: لماذا لا تسقط أمريكا والغرب الآن إن كانت على باطل؟
الله تعالى لا يُعاجل العصاة بالعقوبة، بل يُمْهلهم لعلهم يرجعون، أو ليُحصي عليهم الحُجَّة: قال تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: ٤٢).
ثم إن سقوط الحضارات والأنظمة الاستكبارية يحتاج إلى قراءة تاريخية طويلة المدى، فالإمبراطورية الرومانية استمرت قرونًا قبل انهيارها، وكذلك الحضارة الفرعونية و البابلية وغيرها لم تسقط بين يوم وليلة.
سادسًا: الصلاة رمزٌ للشرعية الإلهية
الآية الأصلية (الحج: ٤١) تتحدث عن التمكين (الشرعي) الذي أراده الله لعباده المؤمنين، حيث تكون الصلاة عنوانًا لخضوع السلطة لرب العالمين. أما الدول التي تُحكِّم منهجًا غير إلهي – وإن كانت قوية – فهي خارج نطاق الوعد القرآني الخاص بالتمكين النابع من الإيمان، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ (الأعراف: ١٢٨).
الخلاصة:
القوة المادية ليست دليلًا على صدق المنهج، فالله قد يُعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، لكن الآخرة لا يُعطيها إلا لمن يحب ، ولا يمكن في الأرض إلا عباد الله الصالحين وما دون ذلك هو استدراج . والتمكين الحقيقي – في المفهوم القرآني – هو الذي يجمع بين (القوة المادية والاستقامة الروحية) ، وأما الدول التي تفصل بينهما فهي كالبناء المشيد على شفا جرف هارٍ، يُوشك أن ينهار، لكن بأجل الله الذي لا يُقدَّم ولا يُؤخَّر.
قال تعالى ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾