سوقًا سوداء للمذهبية، و بورصة للطائفية من خلال مفهوم الدولة القائم على الزعماء وامراء الطوائف، والفساد المرتبط بالمحسوبيات... من هنا يكون أحد أهم مضامين "الانتقال الى الديموقراطية المنشودة هو وضع حدّ لإمكانية الكلام عنه بواسطة الماضي والتاريخ الدموي .
فنحن اليوم أمام دول أشبه ما تكون بالمستودعات المركبّة من الفوضى، والانظمة السائدة فيها تسلطية بطبيعة الحال... لأنها صاحبة "السلطة القهرية"، حيث يجتمع فيها دور الشرطي الحارس الذي يجمع بين الحالة المدنية والحالة العسكرية، الامر الذي يجعل البلاد في حالة "اللادولة" و الفوضى الدائمة، والفساد المركب... لأن العلاقة القائمة هي ان السلطة هي الطريق الى المال ، فيصبح الجاه السياسي و المنصب هو مصدر الثروة.. والمنصب لا يتوصل اليه من خلال انتخابات ديموقراطية بل من خلال محسوبيات وزعامات عشائرية وطائفية ..
علاوة على عامل أساسي بامتياز وهو "الطائفية السياسية" التي تُشكل ترجمة لمبدأ "العصبية" أي القوة القبلية، أو الدينية، أو المذهبية، أو العشائرية، أو الحزبية، أو الأيديولوجية ...التي تُعدُّ القوة الأقوى في صناعة الأحداث والمحركة لتاريخ البلاد ... هذه الطائفية تجري نحو غاية السلطة المتمثلة ب "الزعيم" ، والزعيم ينتهي الى الترف والانفراد بالمجد .....
إذن فماذا تولد عن هكذا بنية ؟؟؟
من الطبيعي في هكذا بنية أن تكثر الصراعات والنزاعات بين "عصبية" وأخرى .. فتسقط "عصبية متمثلة في زعيم"، لتقوم مكانها عصبية ثانية متمثلة بزعيم آخر ، وهكذا دواليك ...مع كل التداخلات الاقليمية والدولية التي تدعم هذا الفريق أو ذاك .... محدثة انقسامات فئوية حادّة، ليسقط الجميع في فخ الدويلات فتقسم المنطقة الى دويلات صغيرة، يصبح كل زعيم فيها على طائفته صيّاح ....في ظل خوف دائم من نشوب حرب أهلية
ويبقى السؤال مطروحًا كيف يمكن الخروج من دوامة "العصبيات" وما هو السبيل تجنيب البلاد حتمية "الصراعات " ؟؟؟؟
بالدرجة الأولى يكون ذلك بالانتقال نحو الديموقراطية وفق برنامج وصيرورة تواجه الحتميات الطائفية ... وذلك يكون عبر خطوات أهمها :
استقلال السلطة السياسية عن سلطة رأس المال : وذلك من خلال قطيعة نهائية مع "دولة المستودعات الطائفية " ومع قانون "التملق للزعيم المفيد للجاه السياسي الموصل للسلطة الجانية للأموال "، الذي أدى في الدول العربية خصوصًا..الى تفاوت طبقي حاد، بين أثرياء ثراء فاحش يتقلدون زمام الامور، وبين أكثرية كاثرة من الفقراء....
فالأمر يتطلب بالدرجة الأولى مغادرة "مغارة علي بابا" والارتباط بأفق الحداثة والمعاصرة والانجازات السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية، فالديموقراطية ترتبط بشكل مباشر مع قانون المحاسبة على كافَّة الصُعد ، لذلك فإن قانون المحاسبة في ظل الانظمة الحالية مُعطل بالكامل، فالسياسيون يتخذون من الطائفية متراساً يقفون خلفه للاتقاء من موضوع المحاسبة او المسائلة بموضوع هدر او غيره... ، ولو فُتح ملف أحدهم من هدرٍ أو اختلاس، أعتبر ذلك مسًّا بطائفته، وأعلن أن ذلك خط أحمر ينبغي ألا يقترب منه أحد ..وأصبحت الطائفية هي الحصن الحصين الذي يحتمي به الفاسد كي يتقي مغبة المساءلة والمحاسبة.
تأسيس الوعي بالديموقراطية : إن الديموقراطية في الوطن العربي لا تزال غير مؤسسة في الوعي فهي ما تزال قضية تحيط بها الريبة والشكوك ولم تتحول الى قناعة راسخة وسلوك من بديهيات العقل والسلوك السياسي...
فالنضج الشعبي وفهمه للديموقراطية هي مسألة تربية وصيرورة تربوية طويلة.. فهي تَجربة تُعاش وليست ثوبًا يُلبس وهي ليست طريقة لممارسة الحكم بل هي تجربة عميقة تكمن في فكر الانسان وممارساته وهي عملية إبداعية مبنية على عقلية تواصلية .
إذن لا بد من تقرير نقاط تبنى على ماسبق أهمها :
أن الديموقراطية ليست منتجا يُستورد ويستهلك بل هي مناهج تُنجز على مراحل متتابعة، بحسب استعدادت كل مجتمع وكل فرد، فهي تُصاغ وتتشكل مع عملية بناء الذات الفردية والمجتمعية بما يتلاءم مع الواقع والظروف المحيطة .لذلك فهي مفهوم يتطور وينمو وليست حقًًا ثابتا يكتسب..ان
الديموقراطية تطال كافة المستويات الحياتية بدءا من تعاطي الافراد مع ذواتهم، مرورا بتعاطي الافراد مع بعضهم وصولا الى المؤسسات.
مفهوم "الدولة " يرتبط ب "التداول" وانه لا مكان لزعيم "لازق" أبدي بل أن التعاطي بالشؤون العامة ينبغي ان يكون من خلال تعاقب "حكومات جيدة "، ترعى الإصلاح وتواصله من خلال مراحل ..حتى تنتقل الامور من الأسوأ إلى السيئ الى الجيد إلى الأفضل...وهكذا في تطور دائم مستديم ، وهذه سُنَّة كونية وايقاع دوري للحياة ، كما أن هذه الرؤيا تحرر السياسي من فوبيا الكرسي والشك بالآخرين وتمنح الفرد السلام ، فينطلق للعمل والابداع .....
الدكتور
يوسف السعيدي