هذه الأسئلة وغيرها شغلت موخرا أوساطا سياسية وأعلامية كثيرة الى جانب المعنيين بالشأن الاقتصادي العراقي. ويأتي ذلك على خلفية تسريبات اعلامية تشير الى عزم الحكومة إخضاع السياسة النقدية لصلاحياتها أسوة بالسياسة المالية. ونشرت صحف عراقية تصريحات لبعض مسؤولي البنك المركزي يعبرون فيها عن شكواهم من انتشار الشائعات حول عزم الحكومة إقالة محافظ البنك سنان الشبيبي وتأثيرها الضار على أداء المصرف. وكانت عدة وسائل اعلامية قد نشرت نص كتاب صادر عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء، تطالب فيه البنك المركزي العراقي بتقديم السياسة النقدية الى مجلس الوزراء وإقراها هناك وعدم اعتماد أي سياسات قبل حصولها على الضوء الخضر من مجلس الوزراء في خرق واضح للدستور والقوانين السارية. بل وبدأت الأمانة العامة بالفعل تولي بعض مهام السياسة النقدية، إذ شكلت مؤخرا لجنة لدراسة موضوع تذبذب أسعار صرف الدينار العراقي في تجاوز واضح على صلاحيات المصرف المركزي والذي لم يرد له ذكر بين أعضاء هذه اللجنة. ودخل الصراع مرحلة جديدة مع قرار مجلس الوزراء تأجيل تنفيذ مشروع حذف ثلاثة اصفار من العملة العراقية الى أجل غير مسمى، وذلك على الرغم من انتهاء البنك المركزي من الاستعدادات الفنية لهذه الخطوة الضرورية ووجود شبه إجماع على أهميتها القصوى لتحسين كفاءة التداول النقدي في العراق ولاعادة الاعتبار الى العملة الوطنية. وتبين هذه القرارات بما لايدع مجالا للشك بأن القوى المتنفذة داخل الحكومة عازمة بالفعل على قضم صلاحيات البنك المركزي وبأنها ترى بأن الوقت قد حان للاستيلاء على آخر "القلاع المستقلة" في الدولة العراقية. غير أن المحاولة الجديدة للهيمنة على البنك المركزي أثارت عاصفة من الجدل داخل الأوساط السياسية المختلفة وردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض. فمن جهة يحاول النواب المقريون من نوري المالكي تبرير ذلك بضرورة ارتباط البنك المركزي بالسياسة الاقتصادية للدولة. كما أن الأمانة العامة لمجلس الورزاء ترى أن كتابها المذكور يستند الى الدستور الذي ينص على أن رسم السياسة النقدية هو من اختصاصات السلطات الاتحادية الحصرية. ومن الملاحظ أن مؤيدي المالكي في هذه الجدل يخلطون هنا بشكل واضح بين الحكومة والدولة. كما أنهم يرون في الحكومة الممثل الوحيد للسلطات الاتحادية في تجاهل متعمد لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه الدستور العراقي. في المقابل عبر عدد من نواب البرلمان عن استيائهم من هذا التوجه الحكومي. فقد حذرت اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب الحكومة من وضع يدها على المصرف المركزي. ونالت القضية أيضا اهتمام رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي الذي نسبت إليه وسائل الاعلام تصريحات مفادها أنه وجه رسالة الى المالكي يطالبه فيها بعدم التدخل في شؤون المصرف المركزي. وبالتأكيد فإن دخول أطراف سياسية متنوعة على الخط وتبنيهم لهذا الموقف أو ذك لا يأتي بالدرجة الأولى عن قناعة بأهمية الدفاع عن السياسة النقدية المتبعة في العراق ولا تقديرا للمهنية العالية التي أبداها سنان الشبيبي في السنوات التسع الأخيرة أثناء توليه مهمة صياغة السياسة النقدية وتطبيقها في ظروف في غاية التعقيد. فالبعض من رجال السياسة يجد في الجدل الدائر ورقة يمكن توظيفها في التجاذبات والمهاترات السياسية الدائرة بين "الأخوة الأعداء" داخل الائتلاف الحاكم. فهل نحن إزاء نهج جديد للحكومة بهذه الخصوص؟ ولماذا هذا الاهتمام الكبيربالسياسة النقدية ومشاكلها في وقت تمر فيه البلاد منذ أشهر عديدة بأزمة سياسة خطيرة تنذر بحرق الأحضر واليابس. مثل هذه الخلافات بين الحكومة والبنك المركزي ليست جديدة وأثيرت مرات عديدة خلال السنوات الأخيرة. ومن الملفت للنظر أن انتقاد السياسة النقدية كان في الفترة السابقة احدى القضايا النادرة الذي يتفق فيها سياسيون كثيرون يختلفون عادة في كل شيء وينتمون لقوى متصارعة. بل وكانت هناك محاولات ليست قليلة لتحويل المصرف المركزي الى كبش فداء عبر تحميله مسؤولية الفشل الواضح للسياسات الاقتصادية في مجالات كثيرة. ويعزى ذلك بالدرجة الأولى الى عدم فهم الأهمية القصوى لاستقلالية البنك المركزي والمحاولات الدؤوبة للعودة الى أساليب الهيمنة والاستئثار بالقرار. فقد شكل تثبيت مبدأ استقلالية البنك المركزي العراقي في قانون إعادة تأسيسه في عام ٢٠٠٣ نقلة نوعية في النظام الاقتصادي للبلاد وظاهرة جديدة غير مألوفة في المنطقة أيضا. وجاء ذلك بعد تجارب مريرة كان التضخم الجامح وانهيار الدينار العراقي وضياع ثروات أجيال بكامها أبرز عنوانيها. فقد عمد نظام البعث الديكتاتوري الى تحويل المصرف المركزي الى مطية لتنفيذ أهدافه ومآربه. وكان صدام حسين وأعوانه ينظرون الى السياسة النقدية كوسيلة لاستنزاف موارد العراق واستخدامها في تمويل الأجهزة القمعية والحروب العبثية والمشاريع الاستعراضية ولاعادة توزيع الثورة لصالح حفنة من أقطاب النظام والمنتفعين من ورائه. ونتيجة لهذه الدروس البليغة نص قانون البنك المركزي الجديد على استقلاليته بشكل لا يقبل اللبس. كما حدد بوضوح سبل ترسيخ هذه الاستقلالية التي تجد تعبيرها في الجوانب اللإدراية والمالية والسياسية. وتتمثل الاستقلالية الادراية في الشروط القانونية الصارمة التي يجب اتباعها أثناء اختيار وإقالة محافظ البنك ونائبه وأعضاء مجلس إدراته. فعلى الرغم من أن رئيس الورزاء يملك الحق في تعيين محافظ البنك المركزي إلا أن ذلك يشترط موافقة مجلس النواب. ومن الناحية النظرية فإن رئيس الحكومة يملك أيضا حق إقالة المحافظ. غير أن هذا الحق يصطدم من الناحية القانونية بجملة من الشروط والعقبات والتي تجعل من ممارسته عملية مستحيلة في الظروف العادية. فإقالة محافظ البنك المركزي لا تجوز إلا في حالات استثنائية مثل ارتكابه جريمة أو إصابته بمرض يمنعه من ممارسة مهامه. وتجدر الاشارة هنا الى ولاية المحافظ تمتد لخمس سنوات يمكن تمديدها وذلك تجنبا للتداخل مع ولاية رئيس الورزاء التي تنتهي بعد أربع سنوات قابلة للتجديد. وتتجلى استقلالية المصرف المالية في وجود ميزانية مستقله له تعتمد على موارده ذاتية وأرباحه الناجمة عن اصدار العملة وإدارة الاحتياطيات الرسمية من العملات الأجنبية والمعادن النفيسة. ويضمن قانون البنك المركزي الاستقلالية السياسية للبنك عبر تحديد هدفه الرئيسي المتمثل في ضمان استقرار المستوى العام للأسعار ومنحه صلاحية اعتماد الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الهدف. كما ينص القانون بوضوح على أن البنك لا يتلقى أي تعليمات من أي شخص أو جهة وبما في ذلك الجهات الحكومية والتي يمنعها القانون صراحة من التدخل في نشاط البنك. ولا يعد هذا الاهتمام الذي تلقاه استقلالية البنك المركزي نوعا من البطر أو رغبة في إقامة جهاز مطلق الصلاحيات لا يخضع للرقابة، بل نتيجة لاستخلاص العبر من تجارب كارثية مرت بها الكثير من البلدان. فحتى في البلدان الديمقراطية تبين التجربة بأن جعل البنك المركزي مجرد جهاز تابع للحكومة يشكل حافزا للأخيرة للجوء للاقتراض من البنك لتمويل العجز بدلا من اعتماد إجراءات أكثر صعوبة وأقل شعبية مثل التقشف أوفرض ضرائب جديدة. وينطوي ذلك على خطر التوسع في الانفاق العام دون ضوابط وتوظيف ذلك لتملق الشارع أو لتوزيع الهبات وشراء الولاءات الأمر الذي يأتي في نهاية المطاف على حساب التنمية المستدامة. ولا تزال قضية استقلالية البنك المركزي تثير بين الحين وألاخر الجدل في بلدان كثيرة، كما يحصل الآن في الاتحاد الأوروبي في ظل أزمة الديون السيادية حيث ظهرت خلافات كثيرة حول دور البنك المركزي الأووربي في شراء السندات السيادية للدول المتعثرة. ولا تعني هذه الاستقلالية إعفاء البنك المركزي من المسؤولية والمحاسبة في حال فشله في تنفيذ المهمات الموكولة إليه. كما ان البنك ملزم باعتماد الشفافية في نشاطه وإطلاع الرأي العام على نتائج عمله. وفي هذا الإطار ينص قانون البنك المركزي على إخضاع حساباته وبياناته للمراجعة والتدقيق المالي من قبل شركة معترف بها يعينها وزير المالية. وإضافة الى ذلك فإن البنك المركزي مطالب أيضا بدعم التنمية المستدامة، ولكن شريطة أن لا يتناقض ذلك مع تنفيذه لهدفه الرئيسي. ولذا يُلزم القانون البنك المركزي بالتشاور مع الحكومة حول مدى امكانية التنسيق بين السياستين النقدية والمالية. من جانب آخر يجب التأكيد على أن استقلالية البنك ليست مطلقة إذ يمكن تعليقها في ظل ظروف ومخاطر استثنائية تحيق بالبلاد مثل الحروب والكوارث الطبيعية. غير أن ذلك لاينطبق على ظروف العراق الحالية. ويبدو أن توجه الحكومة للهيمنة على البنك المركزي يأتي ضمن نهج عام ومتبع منذ سنوات ويهدف للسيطرة على الهيئات المستقلة مثل هيئة النزاهة والمفوضية العليا للانتخابات وشبكة الإعلام والتي دأبت الحكومة على إفراغها من العناصر "غير المريحة" والتي تتجرأ على شق عصا الطاعة. وفي ظل هذه الظروف لا يستبعد تلفيق تهمة لمحافظ البنك المركزي سنان الشبيبي تمهيدا لاقالته كما حصل مع رئيس المفوضية العليا للانتخابات الذي أعتقل مؤقتا على خلفية اتهامات بالفساد المالي أثارها نواب من دولة القانون وتندرج ضمن تصفية حسابات قديمة............*العالم