أن تقف بوجه الظلم شيء عظيم ، وأعظم منه أن تتمسك بموقفك ، ولا تخضع لمغريات الحاكم ولا لحبائل الشيطان ، وتأتي عظمة هذا الموقف كونه يضعك في خانة ( المصلحين المخلصين ) الذين يهمهم سعادة البشرية بعيدا عن المصالح الخاصة ، وهذه من صفات الأنبياء والمقربين والمخلصين أصحاب المباديء العظيمة وفي مقدمتها الحب في الله والكره له .
والشيطان لايسعده مثل هؤلاء فيحاول أن يجتهد بما يمتلكه من قوة ليعيدهم إلى طاعته . ويتجلى الإنسان في أجمل صوره عندما يتمرد على نزعاته الدنيوية فلا يضعف أمام مغريات ذلك الشيطان ولا محاولات السلطان ، وهو إذا ما نجح في ذلك فإنه ينتقل إلى منزلة إلهية ، ليس في وسع أي أحد أن يثبت عليها ، إذا لم يمتلك صاحبها إيمانا راسخاً وشرفا أصيلاً وقلبا جامداً . والتاريخ يحدثنا عن أشخاص بلغوها لكنهم فقدوها في السنوات الأخيرة من حياتهم ، مثل الزبير بن العوام وطلحة ، لقد جاء قاتل الزبير بسيفه لعلي عليه السلام فراح عليٌ يقلبه ويقول : سيف طالما كشف به الكرب عن وجه رسول اللـه (ص) .
يقول الحكماء أن القابليات الفريدة ( الشجاعة – القلم – البراعة– النبوغ وغيرها ) تقترن بإخلاص صاحبها بالله وبقضيته ( إذا صعد الإخلاص نزل التوفيق ) والتعريف الفلسفي للتوفيق هو : ( قبول القلب إلهام الملك ) . وقد ورد في الحديث الشريف : إن الله ينظر إلى قلب المؤمن ، فإذا رأى فيه إخلاصاً سدد خطاه وتولاه . والقلب الخالي من الإخلاص لا يتقبل الإلهام فيسقط في أول مطب دنيوي .
المقدمة أعلاه تبين لنا أن أسس التوفيق الألهي هو الإخلاص لله في كل عمل تقوم به ، لأن الله يمقت من يشرك به حتى بنوايا الأعمال صغيرة كانت أم كبيرة ، وفي ذلك حكمة قد لاندرك حقيقتها ، لكنه قانون وسنة واضحة وصريحة في القرآن وفي السنة وفي ثقافة أهل البيت .
والآن نريد أن نسحب ما تقدم على مشهدنا السياسي والاجتماعي في العراق ، في زمن ما بعد سقوط النظام البعثي المقيت ، فيما يخص علاقة المخلصين وأصحاب التاريخ الجهادي والوطني بدنيا العراق الجديدة ، ومدى صمودهم أمام مغريات تلك الدنيا ومن يمسك بزمامها من قادة الكتل والأحزاب السياسية التي أصبحت تتحكم بأموال العراق ومناصبه وامتيازاته ، بعد أن أدركنا من خلال تجربة السنوات التسع الماضية ، أن ثقافة استقطاب الشخصيات المؤثرة بات يسيطر على وجدان الأحزاب الحاكمة خوفا على وجودها وضياع الدنيا من بين يديه . وقد نجحت تلك الأحزاب في اسكات الكثير من الأصوات الأصيلة المخلصة صاحبة التاريخ العريق بإسلوب ( اسكته يافلان ) . وأصبح مكتب ( أمين الحزب ) الحاكم أشبه ( بإيوان ) ملوك أيام زمان يتهافت عليه المثقفون والسياسيون ، فيوقعون على إلتزامات ( الذل والولاء ) ثم يأخذون عطائهم ويعودون ليمارسوا دور ( المطبل ) أو على أقل تقدير دور ( الساكت عن الحق ) وهو أقبح الإيمان .
الذي يثير الكثير من الحزن في قلوب المخلصين هو أن أصحاب التاريخ والكفاءة والتجربة من أبناء العراق وخاصة الحركة الإسلامية قليلون جداً ، وهذه القلة قد أغرت الحكام وشجعتهم على الاتصال بهم وإغرائهم بما يتيسر من الإمتيازات الدنيوية الزائلة ، ولذا فإن سقوط واحد منهم يشكل خسارة كبيرة لحاضر ومستقبل العراق ، وهي خسارة أكبر وقعاً على ( الشخص ) ذاته عندما يعلن تخليه عن مبادئه التي ضحى من أجلها وعمل بها سنين عجاف من عمره ، وبنى من خلالها ( جاهاً إلهيا ) لايمكن أن تعوضه كنوز الدنيا فضلاً عن فتات مادي أو امتيازات لن تدوم ، وأنا أحب أن اذكر أؤلئك الذين سقطوا في جيوب أصحاب الدنيا ، أن الجاه الإلهي كالقارورة إذا ما تهشمت فلن تعود إلى حالها ولو رجعت فستكون مشوهة ، لأن اليد التي صنعتها في المرة الأولى إلهية والتي أعادتها بشرية جذباء ، وما أكبر الفرق بين تلكما اليدين .
وأنا أدعو أؤلئك الذين عافوا مسؤوليتهم الشرعية وباعوها بثمن بخس ، للتمعن في بريق جاه المتربعين على عرش الطاووس في بغداد ، فلابريق لهم مع علو منزلة المناصب التي تقلدوها ، وهذا ما يطلق عليه أحد علماء الإجتماع بمصطلح ( خفوت الجاه في منزلة الجاه ) ، لأن ممارسات احدنا في هذه الحياة مهما كانت صغيرة أو كبيرة تبقى محكومة بالتأثير الغيبي ، الغيب الذي يبقى جزءا اساسيا ينظم العلاقة بين الدنيا والآخرة مع غفلة منا ، لأننا محكومون بقيود مادية ، أنست الإنسان الله فنسي نفسه .
أنا أقول لهؤلاء الملتحقين بركب المطبلين أو الساكتين ، لقد خسرتم أنفسكم وخسرتم الوطن ، فقفوا حيث أنتم ، فتاريخ بعضكم وأنتم من رحم الرسالة لايسمح أن تبيعوه بدراهم مشبوهة ، لأن موقفكم هذا لن يلبي طموحكم ، وأعود لأقول أن المال إذا ذهب يعود ، بيد أن الجاه إذا ذهب لن يعود . كما أن للباطل شياطين يثبتو أصحابهم ، فإن للحق ملائكته يخدمون أصحابهم فاختاروا أي قرين تتخيرون .
ولا بأس بالتذكير بموقف الشاعر المبدع أحمد مطر ، فلقد عرضت عليه أموال الكويت لشراء صوته فرفض وقال : سوف أبقى أدافع عن الحق .. ويذكرنا هذا الموقف بموقف الداعية ( أبي ذر الغفاري ) الذي بقي ثابتاً على موقفه من الظلم والانحراف حتى نفي إلى ( الربذة ) .. وما أجمل الصورة التي رسمها إلإمام علي عليه السلام لذلك الموقف الإلهي عندما قال له : يا أباذر أن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك .