(نموذج للاطلاع والدراسة) المتنبي
هو أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي الكوفي الكندي ولد بالكوفة ونشأ بالشام وقيل أصوله من كندة ودس خصومه في نسبه استغلالا لأنه لم يشر إلى أبيه في شعره أبداً و الغالب أن طفولته كانت تتميز بالحرمان و التنقل في العراق والشام حيث كانت الفتن تمور وكان قد عرف سيف الدولة من قبل وسمع عن أفضاله الكثير فوفد المتنبي عليه وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا وقد كافأه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام .
غير أن المتنبي حافظ على عادته في إفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه وهم كثيرون في بلاط سيف الدولة فانكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بسيف الدولة وغادره إلى مصر حزيناً خائباً ليواصل النظر في أطماعه السياسية بعد أن قال بحضرته قصيدته الشهيرة:
وَاحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلْبهُ شَـبِمُ ومَن بِجِسمي وَحالي عِنْدَهُ سَقَم
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قد بَرَى جَسَدي وتَدَّعِي حُبَّ سَيفِ الدَولةِ الأُمَمُ
إِنْ كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ فَلَيتَ أَنَّا بِقَدْرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
قد زُرتُه وسُيُوفُ الهِندِ مُغمَدةٌ وقد نَظرتُ إليهِ والسُيُوفُ دَم
وَكانَ أَحسَنَ خَلقِ الهل كُلِّهِمِ وكانَ أَحْسَنَ ما في الأَحسَنِ الشِيَم
فَوتُ العَدُوِّ الِذي يَمَّمْتَهُ ظَفرٌ في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ
قد نابَ عنكَ شَدِيدُ الخَوفِ واصطَنَعَتْ لَكَ المَهابةُمالا تَصْنعُ البُهَمُ
أَلزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئاً لَيسَ يَلْزَمُها أَنْ لا يُوارِيَهُم أرضٌ ولا عَلَمُ
أَكلما رُمتَ جَيشاً فانثَنَى هَرَباً تَصَرَّفَتْ بِكَ في آثارِهِ الهِممُ
علَيكَ هَزمُهُمُ في كُلِّ مُعْتَرَكٍ وما عَلَيكَ بِهِمْ عارٌ إِذا انهَزَموا
أَما تَرَى ظَفَراً حُلواً سِوَى ظَفَر ٍ تَصافَحَت ْفيهِ بيضُ الهِنْدِ والِلمَمُ
يا أَعدَلَ الناسِ إِلاَّ في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وأَنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً أَنْ تَحْسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ
وما انتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظرِهِ إِذا استَوَتْ عِندَهُ الأَنوارُ والظُلَمُ
سَيَعْلَمُ الجَمْعُ مِمَّن ضَمَّ مَجْلِسُنا بِأنَّني خَيْرُ مَن تَسْعَى بهِ قدَمُ
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمَى إلى أَدَبي وأَسمَعَتْ كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
أَنامُ مِلءَ جُفُوفي عن شَوارِدِها ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويَختَصِمُ
وَجَاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكِي حَتَّى أَتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسةٌ وفَمُ
إِذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسمُ
ومُهجةٍ مُهجتي مِن هَمِّ صاحِبِها أَدرَكْتُها بِجَوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ
رِجلاهُ في الرَكضِ رِجْلٌ واليَدانِ يَدٌ وفِعْلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ والقَدَمُ
ومُرهَفٍ سِرتُ بَينَ الجَحْفَلَينِ بِهِ حتَّى ضَرَبْتُ ومَوجُ المَوتِ يَلْتَطِمُ
الخَيْلُ واللّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني والسَيفُ والرُمْحُ والقِرطاسُ والقَلَمُ
صَحِبتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنْفَرِدا حتَّى تَعَجَّبَ منَي القُورُ والأَكَمُ
يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أن نُفارِقَهم وَجداننا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُمْ عَدَمُ
ما كانَ أَخلَقَنا مِنكُم بِتَكرِمة لَو أَن أَمرَكُمُ مِن أَمرِنا أَمَمُ
إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا فَما لِجُرْحٍ إِذا أَرضاكُمُ أَلَمُ
وبَينَنا لَو رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفةٌ إِنَّ المَعارِفَ في أَهلِ النُهَى ذِمَمُ
كَم تَطلُبُونَ لَنا عَيباً فيُعجِزُكم ويَكرَهُ الله ما تأْتُونَ والكَرَمُ
ما أَبعَدَ العَيْبَ والنُقصانَ من شَرَفي أَنا الثُرَيَّا وَذانِ الشَيبُ والهَرَمُ
لَيتَ الغَمامَ الذي عِندِي صَواعِقُهُ يُزِيلُهُنَّ إلى مَن عِندَه الدِيَمُ
أَرَى النَوَى يَقْتَضِيني كُلَّ مَرْحَلةٍ لا تَستَقِلُّ بِها الوَخَّادةُ الرُسُمُ
لَئِن تَرَكْنَ ضُمَيراً عن مَيامِنِنا لَيَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعْتُهُمْ نَدَمُ
إذا تَرَحَّلْتَ عن قَومٍ وقد قَدَروا أَن لا تُفارِقَهم فالراحِلُونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بهِ وشَرُّ ما يَكْسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ
وشَرُّ ما قَنَصَتْهُ راحَتي قَنَصٌ شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَخَم
بأَيَّ لَفْظٍ تَقُولُ الشِعْرَ زِعْنِفةٌ تجُوزْ عِندَكَ لا عُرْبٌ وِلا عَجَمُ
هذا عِتابكَ إِلاَّ أَنَّهُ مِقَةٌ قد ضُمِّنَ الدُرَّ إِلاَّ أَنَّهُ كَلِمُ
الشخص الذي تلا سيف الدولة أهمية في سيرة المتنبي هو كافور الإخشيدي وكان سبب ذهاب المتنبي إليه لأنه قد طمعه في ولاية يوليها إياه ولم يكن مديح المتنبي لكافور صافياً بل بطنه بالهجاء و الحنين إلى سيف الدولة فكان مطلع أول قصيدته مدح بها كافور:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
كان كافور حذراً داهية فلم ينل المتنبي منه مطلبه بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده فهجاهم المتنبي و هجا كافور ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور:
لا تشتري العبد إلا والعصاة معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
وقرر أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه فغادرها في يوم عيد وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور و حاشيته والتي كان مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد
منزلته الشعرية:
قال الكتاب عنه: لأبي الطيب مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية ، فقد كان نادرة زمانه ، وأعجوبة عصره ، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام للشعراء والأدباء يجدون فيه القوة ، والتدفق ، والشاعرية المرتكزة على الحس والتجربة الصادقة وكان المتنبي شاعرا من شعراء متمكنا وفق بين الشعر والحكمة، وجعل أكثر عنايته بالمعنى يسكبه في بيت واحد مهما اتسع ويصوغه بأبدع الصياغة التي تأخذ العقول.
أطلق الشعر من قيوده وخرج عن أساليب العرب المخصوصة فشعره صورة صادقة لعصره وحياته فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات واضطرابات ويدلك على ما كان به من مذاهب وآراء ويمثل شعره حياته المضطربة ففيه يتجلى طموحه وعقله وشجاعته وسخطه ورضاه وحرصه على المال كما تتجلى القوة في معانيه وأخيلته وألفاظه وبناء القصيدة بناء محكم منطقي متسلسل وهو يتناول موضوعه مباشرة والمعاني تمتاز بقوتها وفخامتها وسموها غالباً وكثيراً ما يركزها في صورة حقائق عامة ويصوغها في قوالب حكمة بارعة ويمتاز خياله بالقوة والخصب وألفاظه جزلة وعباراته رصينة تلائم قوة روحه ومعانيه ، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة وقد ضمن شعره كثيرا من الأمثال والحكم واختص بالإبداع بوصف القتال وأجاد التشبيه وأبدع المديح والهجاء وظل شعره مددا في كل عصر لكل شاعر وكاتب وما يزال المتنبي يحتفظ بمجده وشهرته إلى يومنا لا يدانيه أحد من الشعراء ونحن نورد من روائع أقواله وأمثاله بعضا مما جاء في شعره ففي صرعى الحب يقول :
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مضرجا بدموعه مثل القتيل مضرجا بدمائه
ويقول فيما عاناه من نوائب الزمان:
لم يترك الدهر في قلبي ولا كبدي شيئا تتيمه عين ولا جيد
يا ساقيي أخمر في كئوسكما أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا ما لي لا تتيمني هذي المدام ولا تلك الأغاريد
إذا أردت كميت اللون صافية وجدتها وحبيب النفس مفقود
وفي وداع الأحبة يقول:
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم بعثن بكل القتل من كل مشفق
أدرن عيونا حائرات كأنها مركبة أحداقها فوق زئبق
عشية يغدونا عن النظر البكا وعن لذة التوديع خوف التفرق
وفي مفارقة الأحباب يقول:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
وفي أهل العزم يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وفي شحذ همته يقول:
ردي حياض الردى يا نفس واطرحي حياض خوف الردى للشاة و النعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة فلا دعيت ابن أم المجد و الكرم
وفي نوائب الأيام يقول:
عرفت نوائب الحدثان حتى لو انتسبت لكنت لها نقيبا
وفي التبرم بالحياة وتمني الموت لندرة الصديق يقول:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن أرى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
وفي الفخر بنفسه يقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا وغنى به من لا يغني مغردا
وفي ذلك يقول:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر من نطق الضاد وعوذ الجاني وغوث الطريد
إن أكن معجبا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
وفي علو الهمة وتمجيد الكرامة:
أعطى الزمان فما قبلت عطاءه وأراد لي فأردت أن أتخيرا
وفي الجبن والشجاعة يقول:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء إن الجبن حزم و تلك خديعة الطبع اللئيم
و كل شجاعة في المرء تغني ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وفي حال الدنيا يقول:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا فلوعاش أهلها منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب وفارقها الماضي فـراق سليب
ونراه يندب حظه فيقول:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أني بما أنا باك منه محسود
أمسيت أروح مثر خازنا ويدا أنا الغني وأموالي المواعيد
وفي حظ الجهال في الحياة يقول:
تحلو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
وقال يهجو الشعراء الذين كانوا ينفسون عليه مكانته :
لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل
وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل
وما التِّيهُ طِبِّى فيهم غير أنني بغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل
وقد كثرت في شعره الأمثال الحكمية ونذكر منها ما يدل على عمق بصيرته:
ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى
وما كل وجه أبيض بمبارك ولا كل جفن ضيق بنجيب
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورثه التقى وحب الشجاع النفس أورثه الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا
كثير حياة المرء مثل قليلها يزول وماضي عيشه مثل حاضر
فما الحداثة من حلم بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
وكل امرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب
بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد
فإن قليل الحب بالعقل صالح وإن كثير الحب بالجهل فاسد
وما ماضي الشباب بمسترد ولا يوم يمر بمستعاد
فإن الجرح ينفر بعد حين إذا كان البناء على فساد
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده
فقد يظن شجاعا من به خرق وقد يظن جبانا من به زمع
إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
وما الحسن في وجه الفتى شرف له إذا لم يكن في فعله والخلائق
وجائزة دعوى المحبة والهوى وإن كان لا يخفى كلام المنافق
وما يوجع الحرمان من كف حارم كما يوجع الحرمان من كفر رازق
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
من أطاق التماس شـيء غلابا
واغتصابا لم يلتمسه نوالا