لعل الدين الإسلامي مر بفترتين ؛ إحداهما قصيرة لكنها غنية بعطائها الإنساني والأخلاقي والثانية طويلة جدا لكنها كانت للأسف فقيرة بعطائها الديني . فحينما كان الإسلام محمديا ،كان الإسلام الأخلاقي والإنساني في أوجه تألقا .. الحق أنه قلب نظام التعايش الاجتماعي السائد آنذاك (رأسا على عقب ) ليحيله إلى نظام تعايشي اجتماعي تكافلي ، لتشهد جزيرة العرب يومذاك ، انقلابا من الحياة المتوحشة ذات الصبغة السيئة إلى حياة تملؤها ؛ مفاهيم العدل والتكافل والردع الاجتماعي وإحقاق الحقوق وغيرها من مفاهيم حقوق الإنسان التي نعرفها اليوم ،، والتي يتجاهر ويزايد بها جهلاء العلمانية ومنظريها سواء بسواء ... إلا أن حظ سكان الجزيرة كان سيئا ، فحينما انتقل الرسول محمد (ص) إلى خالقه ، عاد كل شئ إلى الوراء بطيئا ولكن بشرعية الدين هذه المرة..
الحقيقة ربما كانت؛ أن محمدا (ص) لايريد قيام دولة للإسلام بالمعنى السياسي الحديث فالتاريخ الإسلامي سياسيا كان، أم فقهيا ، لم يخبرنا، بعكس ذلك . بل من المؤكد أن محمد(ص) خلال سيرته النبوية ، لم يتعرض بالذكر لبناء دولة سياسية للإسلام . ويمكن ملاحظة ذلك في خطبته الأخيرة لحشود المسلمين والتي يطلق عليها المؤرخون في العادة؛ خطبة حجة الوداع . الرسول الأمي (ص) الفت انتباه الناس على أمور شتى صغيرة وكبيرة في تلك الخطبة الإرشادية الأخيرة ، لعلنا نستطيع القول عنها أنها كانت بحق ، خلاصة الرسالة الإسلامية وقد تكون هي ذاتها ما كان يريده الله لخلقه من فضائل سلوكية تعود بالنفع لحياة الناس. لقد (ذكر صلوات الله عليه وآله) كل ما يتعلق بسلوكيات التعايش الإنساني ، فيما بين المجتمع نفسه ومابين الإفراد أنفسهم نزولا إلى طريقة التعامل بين الزوج وزوجته . وإذا كان الرسول قد استعرض شتى العلاقات وأبدى التوجيهات والنصح في طرق الوصول إليها ، والتي لايمكن القول عنها إلا بأنها كانت غاية اهتماماته وغاية رسالته الإسلامية وأولوية اهتماماته ، وإذا كان بناء دولة للإسلام ذات أهمية قصوى أو هي من مما ألزم ألله رسوله بها ، كان من الأحرى به وهو الأمين المؤتمن أن يؤسس لها وينبه على الأقل لها في خطبة الوداع .. باستثناء إعلان الرسول (ص) الأمام علي ( ع) وليا للمؤمنين والمؤمنات ،، وتعميمه للإمام بعمته " وهي معنى السيادة التي يفهم رمزيتها عرب الجزيرة " في خم ؛ مثار الجدل والخلاف الإسلامي .
قد يتصور البعض أن وثيقة المدينة التي أيدها محمد(ص) بعد أن اتفق عليها من كان بمدينة يثرب يومئذ ، قد يتصورها أولئك البعض دستورا أو قانونا أساسي، لدولة الإسلام . ذاك التصور ، بلاشك كان تصورا قاصرا إن لم يكن مغاليا أو حتى خاطئا . فالوثيقة لم تكن إلا تحالف تعايشي اتفاقي مابين المهاجرين إليها الجدد من المكيين المسلمين ومابين مواطني المدينة من عرب اليهود والأوس والخزرج . والأحلاف آنذاك كانت أمرا معتادا وقد عرفها سكان نجد والحجاز ، وهي كثيرة . الوثيقة تلك كانت التزاما أكثر مما هي كانت قانونا ملزما . والشواهد التاريخية كثيرة في هذا المجال . فقضية اليهود في يثرب واحدة من تلك الشواهد ومعركة بدر الكبرى التي لم تلزم الآخرين للمشاركة فيها، شاهد آخر.
القرآن الكريم دستور الإسلام وهي حقيقة حرة في الملف البشري لاتقبل الانشطار. القرآن الكريم ، وهو الذي لم يترك صغيرة ولاكبيرة إلا احتواها وذّكّر بها . فالقرآن الحكيم بنصوص سوره البالغة (١١٤ ) وبعدد آياته البالغة ( ٦٢٣٦)* لم يوعظ أو ينصح أو يوجب إقامة دولة أسلامية . ولم ينهى عن إقامة دولة للإسلام بالتأكيد؛ شأنه في ذلك شأن التوراة والإنجيل . بيد أن ما لم يذكره وما لم ينهى عنه النص القرآني ، ما هو إلا أمر يراه الله ، أمرا ليس ذو أهمية مهمة يلفت الانتباه إليها ( الخالق) في سبيل التعايش الإنساني الصالح والمفيد. وما ليس مهما عند الله ، أرى أنه يجب أن يكون ليس بذي أهمية عند البشر . ولو أن الدولة الدينية هي التي تحفظ العقيدة الوحدانية وتغذي الضمير الإنساني بالفضيلة وتنشر القسط والعدل والتعايش السعيد في ربوع الأرض، لكان الله وهو الحكيم العليم الخبير ، أن يوجبها في التوراة والإنجيل والقرآن ، وأوحى برسالاته الثلاث ( اليهودية والمسيحية والإسلامية) إلى الملوك والأمراء، بديلا من الأنبياء والرسل الفقراء . أو لجعل من الأنبياء أمراءا ومن الرسل ملوكا ومن الوعاظ ولاة . ولما قال في كتابه الكريم(( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزتها أذلة)) …
إلا أن ثقاة الرسول كما يبدو بعده لم يكونوا ، قد أدركوا أن الدولة السياسية فخ للدين . الحق أنهم ربما لم يتصوروا أن يأتي يوما يغيب عنهم الرسول إلى الأبد . أو ربما كانوا على اعتقاد بأن ذلك اليوم كان بعيدا . ولهذا لم نجدهم قد سئلوا النبي القرشي في حياته يوما ما : هل نقيم دولة بعدك أم لا ؟ كذلك لم يسألوا خاتم النبيين والرسل : هل من المؤمل أن نعلن دولة الإسلام أسوة بدولة الروم ودولة الفرس ، وماهي حدودها ؟ إلا أنهم سألوه في الدقائق الأخيرة من حياته الدنيا : من لنا بعدك؟ ، أو بمن نهتدي بعدك؟ .. قائلا لهم وهو يهم بالارتقاء إلى ملكوت السماوات : بالقرآن اهتدوا ، ومنهم من يقول : قد قال الرسول : بالقرآن وبسنتي ، ومنهم من أضاف بعترتي آل بيتي وصحابتي . ومهما أضيف من القول أو حذف من القول فأنه لايخرج من أن الرسول (ص) قد أهداهم إلى تأسيس دولة .. ولانهاهم عنها ، لسبب بسيط أن مفهوم إقامة دولة سياسية إسلامية ، لم يكن واردا في فكره الثر مطلقا . وربما كان يراها تجربة تلحق الأذى بروحية الدين ، وتنتهك ستر الناس بفرض الممنوع منه وتتعسف بل وتغالي باستخدام الحق فيه . وربما يكون قد رأى؛ سيدنا الرسول بأن دولة الإسلام السياسية ، ستحيل الإسلام القرآني إلى علاقة بين الحاكم والمحكوم وبدلا من أن يكون القرآن هدى للناس ورحمة ، يمسي سوطا يترهب الناس منه ووجعا على ظهور الضعفاء منهم ودعاءا لجلاديه بدل الله، .. . وما تجربة الدولة الرومانية المسيحية عنه آنذاك ببعيدة .
وعلى هدى الرسول كاد أن يمضي الخلفاء بعده ، إلا أن الإحداث المتتالية بعد وفاة رحمة العالمين وبشيرها محمد(ص) ، كانت قد صبت عليهم من غماماتها مطرا شديدا، لم يكونوا قد عهدوه من قبل، فأخذت تجرهم الأحداث التاريخية جرا عن الخط المحمدي . ذاك الخط القائم على صنع الفعل الحتمي ،، لرد الآخرين عليه ،، والتوقع المصيب لردة فعل الآخر، والاستعداد له . فأجرفتهم التيارات رغما عنهم إلى حيث ما كان لايريده الله ومحمد ، لإسلامه أن ينجرف صوب دولة السياسة السلطوية، كما قبلا لم يريدها الله وموسى ، والله وعيسى ؛ لليهودية الخلوقة والمسيحية السموحة أن تمسخها دولة للدين،،،.يفتنها العرش ويدميها التذابح السلطاني ...