بسم الله الرحمن الرحيم
الموازنة من اهم الادوات التي تمتلكها الدول لتحفيز اقتصادياتها عبر سياساتها المالية والنقدية والاقتصادية، بل حتى النفسية.. ومما يؤسف له، ان الثقافة العامة في البلاد هي ثقافة ان الاقتصاد هو حجم الموارد لخزينة الدولة، وليس حجم النشاطات الاقتصادية او الناتج الوطني الاجمالي والقيم المضافة والعمالة الوطنية.. اي ثقافة يضعف فيها الوعي بالاقتصاد الكلي Macro-economy او الاقتصاد الجزئي Micro-economy. وقد تعمقت هذه الثقافة، اولاً، بسبب الفلسفة التي حكمت البلاد لاكثر من نصف قرن، وقوامها رؤى وخطط اطلقت على نفسها "الاشتراكية" وهي ليست سوى نسخة مشوهة لتطبيقات استيلاء الدولة، ومن يتحكم بها، على كافة المصالح واحتكار النشاطات الاقتصادية.. وتعمقت، ثانياً، بسبب طبيعة الاقتصاد العراقي الريعية التي تعتمد على واردات النفط المتأتية للدولة. فبدا وكأنه كلما ازدادت موارد الدولة كلما كان الاقتصاد بخير. ورغم ان كافة الوقائع قد كشفت انحراف هذه المسارات، ومخاطرها.. بحيث تراجعت القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة، ولم تعد تمثل سوى رقم احادي في الناتج الوطني الاجمالي، بعد ان كانت تمثل الجزء الاعظم منه قبل نصف قرن.. وتراجعت نسبة تكوين رأس المال الثابت في القطاع الاهلي وباتت تعتمد بشكل شبه كلي على القطاع العام الذي تراجع اداؤه ايضاً، وهو ما يفسر الخلل الكبير الذي يعيشه الاقتصاد العراقي.
رغم ذلك كله، ما زالت الاغلبية الساحقة تناقش وتقدم الحلول لتعظيم موارد الخزينة فقط، وليس لتعظيم موارد الاقتصاد اساساً. وعندما نتكلم عن الاغلبية لا نقصد المنطق الاقتصادي والمالي في مؤسسات الدولة، بل في الثقافة العامة في السلطات التشريعية والجامعات والقوى السياسية والرأي العام. وهذا امر يجعل الاصلاح الاقتصادي امراً مستحيلاً.. فالصين "الشيوعية" اليوم لا تفكر اولاً بخزينة الدولة، بل تفكر بالاقتصاد الوطني، فاستطاعت احتلال موقع متقدم في اقتصادها الوطني والاقتصاد العالمي.. بعد ان تحولت الكثير من مؤسساتها الحكومية وتعاونياتها "الاشتراكية" الى هيئات مستثمرة وشركات عملاقة ليس داخل البلاد فقط بل خارجها ايضاً، وهو ما بات يعرف بـ"القبعة الحمراء".. وكمثال ليس في الصين وزارة للنفط، بل مجرد شركات "حكومية" تعمل كما تعمل اية شركة في اي مكان اخر.. وهذه الولايات المتحدة "الرأسمالية" عالجت ازمة ٢٠٠٩ ليس بتعظيم خزينة الدولة بل بتخفيض معدل الفائدة الفيدرالية، ليدور بين صفر و ٠.٢٥%، بهدف تشجيع النشاطات الاقتصادية، وكل ما يرافقه من مكاسب، بما في ذلك لخزينة الدولة نفسها عبر الضرائب والجبايات. من هنا دعوتنا خلال مناقشات الموازنة على تبني نظرة لتخفيف القيود واعادة دراسة الكثير من التعليمات البالية المعرقلة لنشاطات الوزارات والمحافظات وغيرها لتحريك مواردها وموجوداتها وقدراتها بما يزيد من مستوى النشاط الاقتصادي العام.. ولان تقوم الدولة بتقنين وتشريع وتثقيف نفسها ومؤسسات الرأي على ما يراه الدستور، بل ما تراه حقائق الحياة، بان لا تقدم ولا مخرج للبلاد، ان لم تنطلق النشاطات الاقتصادية من الدولة ومن خارجها، والتوقف عن الاعتماد على موارد الدولة والخزينة.
فـ"الدول الذكية" تركز على المصالح اساساً لذلك لا ترفض "الاقتصاد الموازي"، بل تشجعه وتعتبر قوتها من نموه، وتمنحه، من السماحات والتسهيلات، بل "غض النظر" في الكثير من الشؤون، ما دامت ترى فيه ما يحقق المصالح العامة.. والامثلة المطبقة هناك، بما في ذلك ابسطها، تعتبر لدينا من الجرائم الكبرى للاسف الشديد. فكثير منا ما زال جاهلاً لهذه الحقيقة، في حين وعاها الاقدمون. وهذا مروان بن عبد الملك، يكتب الى الحجاج الذي طالب بالاستزادة من الخراج قائلاً "لا تكن على درهمك المأخوذ احرص منك على درهمك المتروك، وابق لهم لحوماً يعقدون بها شحوماً".