من يكتب عن التأريخ السياسي الحديث والمعاصر للعراق ، او عن الادوار السياسية والفكرية والثقافية للمرجعيات الدينية خلال القرن الماضي، او عن رواد الفكر الاسلامي فأنه لابد ان يفرد حيزا غير قليل للمرجع الديني الكبير الامام محسن الحكيم قدس سره (١٣٠٦هـ -١٣٩٠ هـ) ، بأعتباره احد الاسماء البارزة في حركة الجهاد التي قادت ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني في العراق في الربع الاول من القرن الماضي ، وبأعتبار انه تصدى للمرجعية الدينية (زعامة الطائفة الشيعية على المستوى العالمي) في حقبة زمنية شهدت الكثير الوقائع والاحداث الحساسة والخطيرة، ليس على صعيد العراق فحسب ، بل على الصعيد العالمي برمته ، حيث كان الصراع بين المعسكرين الرأسمالي (الغربي) من جهة ، والمعسكر الاشتراكي (الشرقي) من جهة اخرى على اشده ، ولم تكن معظم مكونات الخريطة العالمية بمنأى عن تأثيراته ، لاسيما دول العالم الثالث والشرق الاوسط ، ومعظم بلدان العالم الاسلامي . وهنا فأن الامام الحكيم اضطلع بدور زعامة متعددة الابعاد والجوانب ، كان لطبيعة جذوره ونشأته العائلية دور كبير فيها ، اذ انه رحمه الله ينتمي الى عائلة جمعت بين العلوم الدينية وعلم الطب، حيث ان احد اجداده، وهو السيد علي الحكيم كان طبيبا مشهورا في عهد الشاه عباس الصفوي ، وكان جده وكذلك ابيه ، من علماء الدين الافاضل في عهدهما. الى جانب ذلك فأن طبيعة شخصيته الفذة ساهمت في ان يضطلع بمهام ومسؤوليات كبرى في فترات مبكرة من عمره وحتى وفاته ، فهو قد اتجه الى تلقي العلوم الدينية عندما كان عمره عشرين عاما على ايدي عدد من الايات العظام ، مثل اية الله السيد كاظم اليزدي ، واية الله محمد كاظم الخراساني ، واية الله السيد محمد سعيد الحبوبي ، واية الله الميرزا النائيني ، وغيرهم . اضافة الى ذلك فأن الظروف والاوضاع السياسية التي عاشها ربما ساهمت هي الاخرى بشكل او بأخر بجعل الامام محسن الحكيم يتبوأ مكانة وموقعا مهمين في العراق اولا ، ومن ثم في عموم العالم الاسلامي ، والعالم قاطبة . ولعل تناول مجمل الادوار والمواقف التأريخية للامام الحكيم قد يستدعينا تخصيص مساحات واسعة جدا ، وكل موقف او عمل تبناه لم يكن يقل اهمية عن الاخر ، ان لم يكن كل واحد مكملا ومتمما للاخر . ولكن على الصعيد الفكري – الثقافي ربما كان مشروع تأسيس المكتبات العامة من المشاريع الرائدة وغير المسبوقة لاشاعة الثقافة الدينية والسياسية والاجتماعية السليمة في اوساط المجتمع ، لاسيما شريحة الشباب في ظل فترة المد الشيوعي الجارف خلال عقدي الخمسينيات والستينيات ، ويقال ان عدد المكتبات التي انشأها الامام الحكيم في عموم العراق بلغت مايقارب ثمانين مكتبة ، كان اكبرها مكتبة الامام الحكيم في مدينة النجف الاشرف التي تضم حوالي ثلاثون الف كتاب مطبوع ، ومايقارب خمسة الاف نسخة خطية . وبهذا الشأن يقول اية الله المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الذين كان واحدا من وكلاء الامام الحكيم – "ان فكرة المكتبات هي فكرة مبتكرة اراد بها رضوان الله عليه ان ينقل العمل الديني من مجرد كونه تبليغ فتوى على غرار ماكان يحدث وما يزال يحدث ، وهو ان العالم الديني يذهب الى الحي ، او الى القرية ، او الى المدينة فيقوم بتبليغ الفتوى لمن يسأله عنها ، او يبلغه ابتداء ، ويقوم بمراسيم العبادات المألوفة ، ولكن السيد الحكيم (رض) جعل – وانا احد مؤسسي المكتبات الكبرى في العراق في عهده وبتوجيهه – جعل من هذه المكتبات نواة للتنظيم العام للاجتماع الاسلامي الشيعي في العراق ، ومن ثم الاجتماع الاسلامي في العراق ، لم تكن مجرد مكتبة خاصة ، حينما يكون القيم عليها انسانا فاعلا ، اذ كانت تتحول الى اكبر بكثير من كونها مركزا لاعارة الكتب وقراءتها" . وفي الواقع ان هذا المشروع كان يعد – فضلا عن كونه اداة لبث الوعي والثقافة بأوجهها المختلفة انطلاقا من رؤية دينية صحيحة - وسيلة ناجعة للتفاعل والتواصل بين المؤسسات الاكاديمية (الجامعات والمعاهد والمدارس) من جهة ، والحوزات العلمية من جهة اخرى . ولهذا وجدنا ان نظام حزب البعث عمد بعد وصوله الى السلطة مرة اخرى عام ١٩٦٨ الى بذل اقصى الجهود لتطويق ذلك المشروع الثقافي – التثقيفي الرائد ومحو اثاره كجزء من حملات محاربة حركة الصحوة الاسلامية في العراق التي ارسى اسسها الامام الحكيم ، وواصلها اية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر بوسائل واساليب جديدة . والى جانب انشاء المكتبات العامة فأن الامام الحكيم اهتم كثيرا بأنشاء المدارس في عموم انحاء العراق ، وربما في خارجه ، مثل المدرسة العاملية في النجف الاشرف ، ومدرسة شريف العلماء في كربلاء المقدسة ، والمدرسة العلمية في الحلة ، ومدرسة السيد اليزدي في النجف ، ومدرسة دار الحكمة في النجف ، والتي اعاد نجله شهيد المحراب اية الله السيد محمد باقر الحكيم الروح اليها في مدينة قم المقدسة .