دعونا نبدأ مع أعقاب سقوط نظام صدام حسين. يعتقد الكثيرون أن العراق كان في طريقه ليصبح دولة أكثر أمنا واستقرارا. وبدلا من ذلك فقد شهدنا تعميق التوترات الطائفية فضلا عن صعود تنظيم القاعدة وداعش في العراق. كثيرا ما يطلب مني عندما أتحدث في الغرب تفسيراً لهذا الواقع.
لقد مرت أكثر من ثلاثة عشر عاما منذ نهاية نظام صدام حسين، ولكن القليل جدا قد تحقق في هذه الفترة. أن أردنا نكون أكثر دقة وتحديدا، فالعراق، على الرغم من بعض التقدم المحدود من زيادة الحريات والانفتاح، فقد تدهور البلد على كافة الأصعدة والجوانب الأخرى، مع ارتفاع غير مسبوق في الفساد والطائفية والأيديولوجيات المتطرفة.
الشعب العراقي لديه تاريخ غني، مع مستويات عالية من التعليم، ومجتمع مدني متقدم، وليس لديهم تاريخ من الأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة، خاصة عند مقارنتها مع دول أخرى في المنطقة، حيث كانت الأيديولوجيات المتطرفة تاريخيا أكثر انتشارا في دول الجوار وليس في العراق. فلماذا، إذن، نرى صعود التطرف بين العراقيين العاديين؟ لماذا نجد أنه حتى أولئك الذين كانوا في الماضي مؤمنين أيماناً قوياً بالأيديولوجيات العلمانية، بما في ذلك حزب البعث الاشتراكي، أصبحوا الآن انصاراً للفكر الديني السلفي المتطرف، والذي هو بشكل طبيعي في تناقض تام مع معتقداتهم السابقة؟ ما ألذي حدث منذ عام ٢٠٠٣ بحيث إنتشرت مثل هذه العقائد المتطرفة؟
هناك العديد من العوامل، ولكن، في رأيي، إن أهم الأسباب يمكن العثور عليها في السياسات قصيرة النظر أو المدمرة التي تم تبنيها وتنفيذها في العراق من قبل بعض الأفراد الذين حكموا البلاد بعد عام ٢٠٠٣ من الذين كانوا غير مؤهلين بشكل واضح لهذا المنصب. حيث عندما وجد هؤلاء أن آمالهم في إعادة انتخابهم قد تعرضت للتهديد بسبب فشلهم في توفير الخدمات العامة والأساسية وتوفير الأمن للناس وإفتقارهم لسياسة إقتصادية مدروسة مما زاد في نسبة الفقر والبطالة مع إنتشار للفساد الحكومي في عصرهم بشكل لم يسبق له مثيل، وجدوا أن الطريقة الوحيدة بالنسبة لهم للبقاء في السلطة كانت التحريض على الطائفية. ولا أخص هنا سياسيي الشيعة فحسب وإن كانت المسؤولية ألأولى ملقاة على عاتقهم لأنهم هم الحكام للبلد، ولكن حتى الكثير من سياسيي السنة الذين وجدوا وضعاً مثالياً للترويج للطائفية في كسب التأييد السياسي من القواعد الشعبية السنية. وكمثل واقعي على الأرض نجد انه أثناء المظاهرات السلمية في الحويجة، كانت النتيجة بسبب تلك السياسات بهدف تحقيق المصالح الخاصة على حساب مصلحة الوطن والمواطن أن هناك أكثر من سبعين شخصاً غير مسلحين لقوا مصرعهم وأصيب أكثر من ثلاثمائة بجروح من قبل الجيش العراقي والقوات الخاصة العراقية المدربين تدريبا عالياً، مع العلم أن آية الله السيد السيستاني أعزه الله (وهو صمام الأمان لهذا البلد) قد ارسل رسالة واضحة إلى الحكومة، في عدم مواجهة هذه المظاهرات بقوات من الجيش أو الشرطة الاتحادية، بل طلب وضع الشرطة المحلية لحماية المتظاهرين، ولكن للأسف تم رفض هذه النصيحة لأنها تتناقض مع أهدافهم للبقاء في السلطة، تلك السياسة التي كانت تهدف إلى دفع السنة للإستنجاد بالمتطرفين السلفيين من القاعدة وغيرهم ثم الأيحاء للقواعد الشيعية انهم يطبقون سياسات للدفاع عليهم من “العدو السني الموهوم” الذي كانت بذرة النقمة موجودة عندهم اصلاً، ولكنهم أي الكثير من حكام الشيعة هم من جدد تأجيج هذه المشاعر التي ضعفت كثيراً بعد عام ٢٠٠٧، وهؤلاء الحكام من الشيعة لعلهم هم من غض الطرف عن هروب أكثر من الف معتقل من عتاة القاعدة من سجن ابو غريب ولعلهم هم من غض الطرف عن دخول داعش لمدينة الموصل معتقدين أنهم سينتصروا على داعش خلال بضعة أيام وأنهم سينالوا تأيداً على كافة المستويات ومن كافة الدول في الحرب على داعش، وسيحققوا أهداف سياساتهم للتشبث بالسلطة، ولكن باءت كل تلك السياسات والمحاولات بالفشل، بل تلك السياسات هي التي أنهتهم فضلاً عن المواقف الحكيمة لآية الله السيد السيستاني أدامه الله.
هذه السياسات الطائفية في تصوري هي التي وضعت الأساس للتطرف. دعونا نلقي نظرة الآن على وجه التحديد في صعود القاعدة وداعش.
المعتقدات السلفية من هاتين المنظمتين ظهرت منذ حوالي ٢٥٠ عاما، في ذلك الوقت جميع المسلمين (السنة والشيعة) اعتبروا هذه الفئة من “الخوارج” (أي خارجين ومنحرفين عن الإسلام)، في ذلك الوقت قامت الإمبراطورية العثمانية والجيش المصري بخوض حرب كبرى ضدهم بسبب إنحرافهم وخروجهم عن الإسلام. ولكن منذ عشرينات القرن الماضي حين إنفصلت العائلة السعودية الحاكمة التي أصبحت بحق قريبة لأهل السنة في معتقداتهم في عدم تكفيرهم لغيرهم من المسلمين وإباحة دمائهم، عن حركة الإخوان السلفية التكفيرية الذين كانوا النواة لنشوء القاعدة وداعش، بدأت هذه الفئة تزعم كذباً أنهم من أهل السنة. بعض السنة إنخدعوا بهذه الأكذوبة فضلاً عن الكثير من الشيعة. فضلاً عن ذلك فقد تخلى الحكام الشيعة عن إسناد الصحوات الذين لعبوا دوراً مفصلياً في القضاء شبه الكامل على القاعدة وبالذات في الأنبار، بعد هذا التخلي بدأت القاعدة بأصطياد زعماء الصحوات الذين بقوا من دون إسناد مادي أو عسكري أو حتى إسناد بالسلاح. وفضلاً عن كل ذلك أتبعت سياسة التهميش والإقصاء إلا من كان من سياسيي السنة من يسبح بحمد حكام الشيعة، وبدلاً من التجاوب مع مطالب المعتصمين في المناطق السنية تم التعامل معها بإستهزاء وإستهجان لزيادة إثارتهم وتعميق الأنفاس الطائفية، هذه الظروف مجتمعة جعلت أهالي المناطق الغربية يتساهلون مع أفراد القاعدة الذين شاركوا في الإعتصامات، ليس بسبب وقوفهم بوجه حكام الشيعة الطائفيين فحسب، بل حتى خوفاً من القاعدة حيث أصبح هناك اكثر من الف من عتاتهم طلقاءً من سجن ابي غريب وغيرها من السجون.
لو نظرنا في السلوك التاريخي لهذه الحركات السلفية التكفيرية فقد قتلوا في تأريخهم المعاصر أعداداً من السنة يفوقون قتلاهم من الشيعة بكثير، فمن
محمد توفيق علاوي
٢٣ مارس ٢٠١٧