أولا: يوم الدار وآية الإنذار
في بداية الدعوة الاسلامية أمرالله تعالى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)([١])، فأخبر(صلى الله عليه وآله وسلم)عليّاً(عليه السلام) بذلك فجمعهم إليه في أحد الدور وكانوا يومئذ أربعين رجلا من أبرز رجال بني عبدالمطّلب، فتكلّم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا بني عبدالمطّلب; إني والله ما أعلمُ شابّاً في العرب جاء قومَه بأفضل ممّا قد جئتكم به; إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتيّ فيكم؟»، فأحجم القوم عنها جميعاً، فقام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وقال: «أنا يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه»، فأخذ(صلى الله عليه وآله وسلم) برقبة عليّ(عليه السلام) ثم قال: «إن هذا أخى ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنكَ وتطيع»([٢]).
وفي رواية أنّه قال: «...قد أمرك أن تسمع لعليّ وتطيع»([٣]).
وفي رواية أخرى أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أطلق مفهوم الخلافة ولم يقيّده بكلمة (فيكم)، فقال: «هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي»([٤]).
وفي رواية أُخرى أنه قال لعليّ(عليه السلام): «... اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي»([٥]).
ورويت هذه الواقعة في مصادر أخرى مبتورة ناقصة، مخالفة للسياق والمهمة التي جمعهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلها، ففي رواية أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من يضمن عنّي ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي»([٦]).
وفي رواية ابن الجوزي أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «...فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي» وفي ذيل الرواية لم يذكر إلاّ عبارة (فقام القوم يضحكون)([٧]).
والحوار الذي دار في يوم الواقعة يدلّ دلالة واضحة وصريحة على أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)نصّ على عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، والقرائن جميعها تدلّ على ذلك; من أنها الخلافة والقيادة والتي من لوازمها السمع والطاعة لمن نصّبه عليهم، أوعلى المسلمين جميعاً، وخروج القوم يضحكون، وقولهم لأبي طالب: «قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع» خير قرينة على ذلك، وأنه أراد الخلافة والقيادة العامة، أمّا أنَّ مقصوده بالخلافة والقيادة الخاصة بالعشيرة فهو بعيد، لأنّ المتعارف عند العرب أنّ الخلافة والقيادة للعشيرة من مختصّات كبار السن غالباً، فهو(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يقصد ذلك، خصوصاً وإنّ علياً(عليه السلام) كان أصغرهم سنّاً.
ثانياً: آية الولاية
انتقلنا في البحث من الواقعة التاريخية إلى القرآن الكريم تمشياً مع الترتيب الزمني في الأدلة على ولاية وقيادة الإمام عليّ(عليه السلام). ومن الأدلة الصريحة على ولاية عليّ(عليه السلام) قوله تعالى: (إنَّما وليُّكُمُ اللهُ ورسُولُهُ والَّذينَ آمَنوا الَّذين يُقيمونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزكاةَ وهم راكِعونَ)([٨]).
وفي هذا الموضوع نثبت أولا: أنّ الآية نازلة في حقّ عليّ(عليه السلام)، وثانياً: أنّ المقصود من الوليّ هو القائد أوالإمام الذي هو أولى بالتصرف.
أمّا النقطة الأُولى، فقد تظافرت وتواترت الروايات على أنّ الآية نزلت في حقّ عليّ بن أبي طالب لتصدُّقه بخاتمه وهو راكع([٩]).
أمّا النقطة الثانية، فقد أجمع الشيعة على أنّها نزلت في إمامة عليّ(عليه السلام)، أمّا السنّة فحملوا لفظ (الولي) على الناصر، ومن ذلك قول الأيجي: «إنّ المراد هو الناصر وإلاّ دلّ على إمامته حال حياة الرسول ، ولأنّ ما تكررّ فيه صيغ الجمع كيف يحمل على الواحد»([١٠]).
وفي مقام الجواب على رأي الأيجي نقول: لا مانع من أن يكون عليّ(عليه السلام) إماماً حال حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه إمام صامت مادام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حيّاً، ولو تنزلنا عن ذلك، نقول: وردت روايات عديدة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يصرّح فيها أنّه وليّه من بعده، ففي رواية عمران بن حصين: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي»([١١]).
وعن بريدة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لاتقع في عليّ فإنّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي»([١٢]).
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلّي(عليه السلام): «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي»([١٣]).
وقد وردت روايات عديدة وبألفاظ مختلفة يجمعها قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) (وهو وليّ كل مؤمن بعدي)([١٤]).
وهي قرينة على أنّ المراد من الوليّ هو الإمام والقائد، إضافة الى وجوب محبته ونصرته، فلا يأتي بعد هذه القرينة ما أثاره الأيجي من إشكال.
وأمّا الشطر الثاني من الإشكال في كيفية حمل الجمع على الواحد، فأجاب عنه أبوحيّان الأندلسي بالقول: «ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازاً»([١٥]).
واستدّل علماء الشيعة على ولاية علي(عليه السلام) ببعض الأدلة ـ وهي كافية للرد على ما أُثير من إشكالات ـ نكتفي هنا بذكر آراء اثنين من العلماء المتقدمين، قال الشيخ الطوسي: «...ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خصَّ بها المذكورين، لأن الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلّهم».
وفي تعليقه على قوله تعالى (والذين آمنوا) قال: «...وجب أيضاً أنّ الذي خوطب بالآية غير الذي جُعلت له الولاية، وإلاّ أدّى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه، وأدّى الى أَن يكون كلّ واحد منهم وليّ نفسه وذلك محال»([١٦]).
وقال العلاّمة الحلّي: «إنّ لفظة (إنّما) تفيد الحصر... إنّ الوليّ يفيد الأَولى بالتصرّف... إن المراد بذلك بعض المؤمنين لأنه تعالى وصفهم بوصف مختصّ ببعضهم ولأنّه لولا ذلك للزم اتحاد الولي والمتولي»([١٧]).
وقد حمل الآلوسي الوليّ على الولاية العامة إلاّ أنه جعلها له من بعد زمان الخلفاء الثلاثة، فقال: «الولاية العامّة كانت له وقت كونه إماماً لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثه»([١٨]).
ولو تتبعنا استعمال لفظة (ولي) نجد شيوعها أو انصرافها في (ولي الأمر)، فلم تضف الى غيره من المعاني إلاّ نادراً.
وفي قول ابن عباس يتوضّح الأمر أكثر فأكثر: «ما في القرآن آية: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) إلاّ وعليّ أميرها وشريفها، وما من أصحاب محمد رجل إلاّ عاتبه الله، وماذكر عليّاً إلاّ بخير)([١٩]).
ومعنى ذلك أنّ عليّاً هو المصداق الأفضل والأكمل للذين آمنوا.
وفي حوار لأم سلمة مع عبد الله بن الزبير يتضح المعنى الحقيقي للولي، ففي معرض ذلك قالت له: «أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة; وعليّ بن أبي طالب حي، وهو وليّ كل مؤمن ومؤمنه؟» فقال: ماسمعنا هذا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ساعة قط، فقالت أم سلمة: إن لم تكن أنت سمعته، فقد سمعته خالتك عائشة، وها هي فاسألها، فقد سَمعَتْهُ يقول: علي خليفتي عليكم... أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟ فقالت عائشة: اللهم نعم([٢٠]).
المصدر تولي الامام وحدة التعيين وتعددية الاجتهاد للمؤلفه السيد سعيد العذاري
مع تغيير يسير في العبارات
([١]) سورة الشعراء آية: ٢١٤.
([٢]) تاريخ الطبري ٢ / ٣١٩، ٣٢١; الكامل في التاريخ ٢ / ٦٣; تاريخ أبي الفداء ١ / ١٧٥; تاريخ ابن الوردي ١/ ١٠٠; كنز العمّال ١٣ / ١١٤.
([٣]) معالم التنزيل ٤ / ٢٧٩; مختصر تاريخ دمشق ١٧ / ٣١١.
([٤]) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٤٤.
([٥]) السيرة الحلبية ١ / ٢٨٦.
([٦]) مسند أحمد بن حنبل ١ / ١٧٨.
([٧]) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٣٦٧.
([٨]) سورة المائدة آية: ٥٥.
([٩]) جامع البيان ٦ / ١٨٦; الصواعق المحرقة ٦٣; أسباب نزول القرآن ٢٠١; البحر المحيط ٤ / ٣٠٠; روح المعاني ٦ / ١٦٧; الدر المنثور ٣ / ١٠٥، ١٠٦; شواهد التنزيل ١ / ١٦١ إلى ١٦٢، من رقم ٢١٦ إلى ٢٤٠; فرائد السمطين ١ / ١٩٠.
([١٠]) شرح المواقف ٨ / ٣٦٠.
([١١]) سنن الترمذي ٥ / ٦٣٢.
([١٢]) كنز العمّال ١١ / ٦٠٨.
([١٣]) مسند أحمد بن حنبل ١ / ٥٤٥.
([١٤]) الصواعق المحرقة ١٩٢; كنز العمّال ١١ / ٦١٢; فرائد السمطين ١ / ٥٦.
([١٥]) البحر المحيط ٤ / ٣٠٠.
([١٦]) الرسائل العشر ١٣٠، ١٣١.
([١٧]) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ٣٦٨.
([١٨]) روح المعاني ٦ / ١٦٨.
([١٩]) شواهد التنزيل ١ / ٢١; ومثله في: الصواعق المحرقة ١٩٦; معرفة الصحابة ١ / ٢٩٨.
([٢٠]) الفتوح ١ / ٤٥٦.