تتواتر المعلومات عن سلوك هذا الطائر الغريب "النعامة" ،في مواجهته للأخطار ،وخصوصا عندما يشعر بوجود من يعقبه أو يركض خلفه من البشر ،فيتوقف ويخفي رأسه في التراب ويغمض عينيه ،لئلا يرى من يتبعه ،ولا شك في أن هذه الطريقة أسلوب عاجز عن مواجهة الأخطار والتحديات ،فهي تحيط به وتراه حتى وإن أخفى رأسه في التراب.
يتعاطى فريقان من الناس بهذه الطريقة مع المشكلات والتحديات التي تواجههم ،الأول :مغالط معاند ،يتعالى عن رؤية الحقيقة ومواجهتها ،ويحاول تصوير الأمور على أنها بسيطة ،أو يعطي صورة عن أسباب غير حقيقية للتحديات الشاخصة ،والثاني :مغفل ساذج ،يتصور أن في إغضائه أو هروبه من الأسباب الحقيقية للتحديات والأزمات يجعله بمنأى عنها، ولا شك في أن كلا الفريقان يقعان في ورطة تراكم الأسباب ، واستعصاء الحلول ، وقد يصل الأمر إلى الأزمات المستحكمة.
تعاقب على بلادنا العربية لقرون حكومات في غالب الأحيان تتعامل مع الأزمات بالطريقة النعامية ،مما جعلنا نستيقظ على أوطان مطوقة بأزمات وتحديات مستعصية الحلول ،أو كما يقال طبيا في المنطقة التي لم يعد يناسبها الحل ،بحيث يكون الخيار الوحيد "انتظار الموت"،صبرا أو جزعا ،ولهذا فأن الغطاء انكشف عن : مواطنة هشة ،وتنمية عرجاء ،واستبداد متأصل، كعلامات فارقة في جبيننا العربي.
منذ أيام أتابع الإعلان عن قناة تلفزيونية جديدة اسمها "الاتحاد" ،وتحت اسمها عبارة توضيحية لهوية القناة "صوت الخليج" ،وتجتهد القناة الجديدة في انتخاب مجموعة من الفنانين والمشاهير من دول الخليج للظهور والمباركة للقناة الجديدة ،وبيان :أنها من الخليج والى الخليج ،وأنها مشروع لمواجهة التحديات الحاضرة ، والطريق إلى الوحدة الخليجية.
مشروع مجلس التعاون الخليجي في حقيقته "إطار أمني"، من اجل مواجهة الأخطار التي تحيط بمجموعة الدول الخليجية ذات الندرة السكانية والثروة الكبيرة ، وهو مشروع قطع أشواطا كبيرة في التنسيق والتعاون بين دول الخليج ،إلا أن الفجوات الحقيقية المتعلقة بالتفاوت في القدرات الاقتصادية ،والتباين في منهج السياسة الخارجية وخارطة المصالح ،وحقيقية النوايا الخفية لكل دولة ومملكة وسلطنة ،حال ويحول دون الوصول إلى الحالة المنشودة التي تناظر الاتحاد الأوربي مثلا.
على صدى طبول التغيير في المنطقة التي أسقطت عروشا ، وأطاحت بحكومات ،يشعر الخليجيون أنهم بأمس الحاجة إلى تعضيد وتقوية إطارهم الأمني ،ولابد لهم من الإغضاء عن كل التقاطعات والتفاوت المعيشي وإشكاليات منهج القيادة لصالح التمترس خلف جدار المواجهة لتغيرات سياسية تحاصرهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم وتحيط بهم من كل جانب.
لا تخفي قناة الاتحاد هويتها ورسالتها ،بل تتجلى بوضوح في برنامج سياسي يبث منها أسبوعيا بعنوان :"مع سعيد الحمد" ،وهو برنامج يظهر فيه سعيد الحمد ،محللا وناقدا ،ويستعين ببيان رؤيته بمقاطع تصورية ولقطات منتقاة تدعم الفكرة التي يتحدث عنها بشكل مثير للانزعاج والتوتر.
الحمد قضيته الأساس مواجهة المتظاهرين والثوار البحرينيين ،وهو يخاطبهم بامتعاض وتصغير بلهجة خليجية بـ"إنتو" ، أو يعبر عنهم وهو يتحدث للآخرين من إتباع منهجه بعبارة "هذولة".لا يمل الرجل من وصفهم باسوء النعوت بفكرهم ،وسلوكهم ،ومنهجهم ، ومطلبهم ، وعرضهم ، وشرفهم ،حتى وصل الأمر به الادعاء ،أن المتظاهرين نصبوا خيمة خاصة (رقم ١٦) في دوار اللؤلؤة للممارسات الجنسية غير المشروعة ،ويختم حديثه مخاطبا أبناء جلدته :لا بد من وقف هذا المد الصفوي الإيراني الولائي ،والقضاء على هؤلاء الشرذمة.
لا يستهويني المناقشة مع هذا الصوت النشاز كثيرا لكنني أحاججه بعبارات بسيطة ،فهب أيها الحمد أن هؤلاء لديهم مشكلة أو خلل (من وجهة نظرك) في دينهم أو عقيدتهم أو سلوكهم الشخصي ، فهل هم أسوء من (السيك والبوذين والمورمانيين والبلا دين...الخ)،فهؤلاء يتمتعون بحقوقهم السياسية في أوطانهم ،ويمارسون تقاليدهم وأفكارهم بحرية سواء كانوا أكثرية أو أقلية ،ومن ينعتهم بـ"هذوله" ،يشكلون نصف السكان على اقل التقدير ،وتحكمهم عائلة واحدة تتوارث الحكم بينها ،وتستحوذ على المناصب بين أفراد عائلتها ومقربيها ومحبيها ،وتمارس اشد صور القمع والاضطهاد لهم ،وتحرمهم من ابسط حقوقهم الفكرية والثقافية والسياسية ،وتحول بينهم وبين أدنى مستويات المشاركة في القرار السياسي.
واستكمالا لهذه المحاجة الصغيرة ، أنا اتفق أن النظام في سورية ليس ديمقراطيا كما ينبغي ،ولم يتيح لأفراد الشعب مشاركة متساوية ،لكن لا يستطيع احد أن يدعي وجود اضطهاد فكري وديني لأي مكون من السوريين ،بل على العكس تتمتع المجموعة التي خارج الحكم بحرية وافرة ،وهيمنة كاملة على منابر التثقيف والمساجد ،والتجارة ،ولديهم قيادات نافذة في حزب البعث والدولة والجيش ،وعلى الرغم من ذلك لا يفتأ الحمد والاتحاد والمتحدين مع رؤيتهم من الصراخ بضرورة الاستعانة ولو بالشيطان من اجل إزاحة الأسد من الحكم .فهل تقتضي العدالة والإنصاف مثل هذه المقارنة ؟
إذا أرادت قناة "الاتحاد" ،أن تعبر عن تطلعات مشروع يبحث في تقوية الأواصر بين دول وشعوب الخليج ،وتمثل صوتا إعلاميا داعما للتوحد ،لا بد أن تترك "الطريقة النعامية" ،وترفع رأسها لمواجهة مشكلات وتحديات حقيقية تتمثل في :(تجنيس ولا تجنيس سياسي)،ففي الوقت الذي يتم تغيير الديمغرافية عنوة في البحرين من خلال جلب العديد من البشر من طائفة محددة ، وتجنسيهم وإعطائهم حقوق مواطنة من اجل معادلة الأكثرية في البلاد ،يقف على الضفة الأخرى في الكويت والسعودية ،مئات الآلاف من العوائل التي عاشت في تلك البلاد منذ أكثر من (٨٠) سنة ،وقد ولدوا ،وخدموا الخدمة الإلزامية في جيوش بلدانهم ،وساهموا في عملية البناء والتنمية ،وهم موطنون مخلصون لهويتهم وانتمائهم ،ومع ذلك محرومون من التمتع بأبسط الحقوق ،فيسمونهم "البدون" ،لا يستطيعون إثبات زواجهم وولاداتهم ووفياتهم بالدوائر الحكومية ، ولا يمكنهم استصدار وثيقة سفر ،ويعيشون في وضع اقتصادي مزري.
وفي فوارق طبقية حادة ،حيث يعيشون الملوك وحواشيهم في الرياض بأحسن الأحوال ،وتخمة في الموارد ،مقابل اضطهاد وقهر لسكان المنطقة الشرقية في الإحساء والقطيف والدمام ،وحرمان لأدنى الحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية. وفي استحواذ لعائلات تتوارث الحكم منذ مئات السنين، وتساندها منظومات دينية ذات نزعة سلفية تعصبية تكفيرية ،دون أن يكون للشعوب حق المشاركة ولو في برلمان صوري .وفي هيمنة وانقياد للقوى الخارجية، وارتهان للبلاد ،مقابل الحفاظ على كرسي الحكم والسلطة في قبضة أصحابها.
هذه التحديات وغيرها ،لا بد لناشدي الاتحاد ،والباحثين عن سر القوة الحقيقية ،أن يقفوا عندها ويناقشونها ،وان تكون "قناة الاتحاد"،منبرا للحوار بها وعليها ،وليس منبرا لسب الجماهير وتخوين الشعوب.
إن الدولة القومية التي استهلكتنا بصراخها لم تحقق شيئا مما بشرت به ، وذهبت أدراج الرياح ،وحكومات العسكراتية والجنرالات تهاوت وتتهاوى تدريجيا ،وأنظمة الحزب الواحد والقائد الضرورة لم يعد لها مكان على الأرض ،ومحميات الملوك والسلاطين في طريقها للزوال ،والمستقبل أمام خيارين :أما خيار الحكمة والحصافة والذي يعني ،اختيار أنموذج الدولة المدنية التي يتساوى الناس فيها من خلال المواطنة التي تنظر إليهم على حد سواء في الحقوق والواجبات ،والتي ترتكز على هوية وطنية تستوعب جميع التنوعات وتمازجهم في خلطة متماسكة دون أن تحيف على مكون أو تحجم جهة أو تضطهد رؤية لها حق في الوطن ،وأما نصير إلى دويلات الطوائف والمذاهب والأعراق ،ونرجع إلى الدولة ما قبل الوطنية ،والتي تعني بالضرورة مزيد من الاضطهاد والاستبداد والتفرق والحروب الداخلية وصراعات الاستنزاف.
د.نعمه العبادي / مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات