لابدَّ من التفكير الجدِّي لحل هذه المعضلة المستديمة وذلك بعدم إضاعة الوقت وتبديد الجهود في التباكي على هذه المشكلة ،وإيكال الشتائم إلى الأطراف الحكومية كما يظهر من الكثير من الكتابات والمقالات .
لا شك أن هذا التفكير وليد معايشة الآلام العريضة الناجمة من الآثار الجسيمة والمخيفة التي يتكبّدها الناس في العراق منذ ما يقرب العشرين عاماً خلت،واحتمال امتداد هذه الأزمة إلى سنين طويلة قادمة، إذْ لا توجد في البين بارقة أمل تنعش نفوس العراقيين الذين اكتووا بنيران متعددة المصادر والجهات !
أجل .. هي مشكلة متراكمة متقادمة، و يبدو أن إمكانات الذهنية العراقية تقصر عن أن تنتشل الناس منها لأسباب كثيرة ومعروفة ومتراكمة هي الأخرى ...يأتي وزير ويروح آخر وتذهب حكومة وتأتي أخرى، والجراحات ما تفتأُ تشخبُ دما عبيطاً صيفاً وشتاءا ً!
وزارة الكهرباء ،وبحسب تصريحات مسؤولي الوزارة ، تبذل مجهودات كبيرة غايتها تخليص البلاد من هذه الأزمة الحقيقية ،لكننا نرى أن تصريحات أولئك المسؤولين لم تنصف المواطنين العزّل الذين لا يعنيهم أمر توقيع العقود مع الشركات العالمية، كما أنهم غير معنيين بمسألة إنشاء مشاريع جديدة تتعلق بالبنى التحتية لهذه الصناعة ،ولا معنيين الادعاء بالأعمال التخريبية التي تطال الأبراج ،مثلما هم غير معنيين بالسرقات الكبيرة والمهمة التي يقترفها البعض من كوادر الوزارة بحسب ما تعلنه الصحافة هنا وهناك ، كما أنهم غير معنيين بالنزاعات الحزبية الواقعة بين الوزارة وبين وزارات أخرى .. المواطنون معنيون فقط بتوفير الكهرباء بأية صورة تكون ... أما التفاصيل الكثيرة التي ترد على ألسنة مختلف المسؤولين الحكوميين فلا تشكل حلاًّ للمعضلة ولا جُزءاً منه أبداً ، فهي تفاصيل تخص الوزارة نفسها ؛ إذْ لا يصح أن يتكبّد المواطن ضرراً إضافياً بدعوى أنّ عليه انتظار إكمال المشاريع سنين قادمة . يجب أن نفصل بين إنشاء هذه المشاريع وبين تزويد الناس بالطاقة الكهربائية .فهنا قضيتان :
الأولى/ بناء مشروعات البُنية التحية للطاقة الكهربائية وهي قضيّة فنيّة صرفة .
الثانية / التفكير ببدائل تجهيز الطاقة الكهربائية لكافة مدن وقصبات العراق ،وهذه قضية يغلب عليها الجانب التنظيمي أكثر من الجوانب الفنية الهندسية ولذا نجد أن مهندسي الوزارة مهما تراكمت خبراتهم الهندسية قد عجزوا عجزاً تامّاً عن توفير الطاقة للمساكن، لأنهم يقتصرون بنظرهم إلى هذه المشكلة بمنظار واحد وهو المنظار الهندسي. وكما قلنا يجب أن تنفصل هاتان القضيتان عن بعضهما البعض ، فعلى الحكومة في هذه المرحلة(مرحلة بناء البنى التحتية) أن لا تتأخر في توفير الطاقة الكهربائية للسكان بدعوى أنها عاكفة على إكمال هذه المشاريع ،فنحن بأزاء قضيتين منفصلتين تماماً .
بعيداً عن الخوض بالاختلافات الحزبية بين الكتل السياسية ،فإني ألاحظ أنَّ معضلة الكهرباء يصعب حلها بالإمكانات التي نعرفها ، من بشر، ومن أموال ومن متغيرات سياسية واجتماعية، ومن موارد أخرى . ويمكن لي أن أعمم طريقة التفكير بهذه المحنة على بقية المعضلات في قطاعات الصحة والتربية والداخلية والخارجية والتعليم العالي والرعاية الاجتماعية وهموم الشباب والإعلام والصحافة والغذاء والمواصلات وأزمة المساكن والأبنية والطرق والجسور والسياسة وغيرها ممّا يلتصق بمستقبل أهالي البلاد والساكنين فيه والوافدين إليه من الحاكم والمحكوم على نحو سواء. فما نتحدث فيه عن الكهرباء يصح أن يمتد ليشمل بقية القطاعات الأخرى .
رأيت في كتاب برايمر الذي سطّر فيه مذكراته في العراق أنه يكتب لزوجته رسالة أليكترونية يشتكي فيها من بطء الروتين الحكومي داخل الإدارة الأميركية ، ممّا يؤثر سلباً على تنفيذ الخطط والسياسات في داخل العراق . فقلت حينها : الدولة ؛ أية دولة لابد أن تكتنف إجرائتها بعض مظاهر التخلّف والفساد فيما لو تُرك يعمل بمفرده من دون منافسة حقيقية من لدن القطاع الخاص ،ومن دون رقابة حقيقية على الأداء .
ونحن نظر إلى المشهد العراقي السابق والحالي من زاوية إدارية فنية مجرّدة عن أي غرض آخر يتعلق بإسقاط هذا الطرف الحزبي أو ذاك،على اعتبار أنَّ الناخب لا تهمه تفاصيل الصراع بين الكتل والتيارات قدر اهتمامه بالحصول على الرفاهية التي قررتها القوانين باعتبار أن المواطن هو غاية أية عملية سياسية .وهذا يدعو مختلف الأجهزة القائمة إلى التفكير الجـِدّي بالبحث المستمر عن أفضل الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق الغرض المعلن .
إنّ بناء منظومة محطات لتوليد الطاقة الكهربائية في العراق،وبناء منظومة توزيع فعّالة بحسب معايير واضحة وغير شخصية ،وما تتطلبه من صرف مبالغ كبيرة،وما تتطلبه من فترة زمنية ليست بالقصيرة أيضاً،لا يدخل المواطن طرفاً فيه، أثناء مدة التنفيذ لتلكم المشروعات، فيدفع ثمناً باهضاً لا يتحمله. بمعنى أنَّ حرمان المواطن من الكهرباء يجب أن يكون سببه طول فترة بناء وإنجاز مشاريع الطاقة الكهربائية، ممّا يجعله ضحية للفشل الذي قد يعتريها من حيث طول الفترة الإضافية، ومن حيث رداءة التنفيذ والأداء .
العراقيون يريدون الحصول على الكهرباء ولا يهمهم تعداد المشاريع على ألسنة المسؤولين ،ولا طريقة تنفيذها ولا طول المدّة . وبعبارة أكثر وضوحاً نقول : ـ يجب أن نفرق بين وجوب قيام الحكومة بتوفير وإيصال الطاقة الكهربائية لجميع سكان العراق ،وبين قيام الحكومة بالتعاقد مع مختلف الشركات لبناء مشاريع الكهرباء في المستقبل . وهذا يتم ـ برأينا ـ من خلال النظر إلى البدائل الآتية :
١ـ فسح المجال أمام شركات القطاع الخاص المعروفة عالمياً لتكون منافساً حقيقاً لوزارة الكهرباء التي تتأثر كثيراًبعوامل الفساد الإداري، وحالها في ذلك حال بقية أجهزة الحكومة. شريطة أن لا يتدخل المسؤولون بكافة مستوياتهم باختيار هذه الشركة أو تلك، كما هو الظاهر من الكثير من الأعمال المناطة . وفي هذه الحالة يكون واجب الوزارة مراقبة جودة الإنتاج واستحصال الضرائب لصالح المواطنين .
٢ـ تخصيص مبلغ شهري يدفع إلى جميع الأسر العراقية لا يقل عن مائة ألف دينار بأسعار اليوم لينصرف بسببها المواطنون إلى معالجة حالة النقص بالطاقة الكهربائية .
٣ـ قيام مديريات الكهرباء في المدن العراقية بنصب مولدات للطاقة الكهربائية في مختلف المناطق السكنية والأسواق ، تتولى تجهيز الطاقة الكهربائية باستخدام نفس الشبكة الوطنية في أوقات الانقطاع للتيار الأصلي، وبأسعار مناسبة يدفعها المواطنين بسعر التكاليف، ريثما تنتهي مشاريع بناء البنية التحتية التي يتحدث عنها المسؤولون والتي تتطلب سنيناً طوال .
٣ـ صرف مكافئات تشجيعية على شكل دفع مبالغ كبيرة جداً وتسهيلات أخرى تقدّم بسخاء إلى أصحاب مشاريع اختراع طرق جديدة ونافعة في هذا المجال .
ومعلومٌ أن صلاحية هذه البدائل تنتهي حين مشاريع الدولة حيز العمل . لكننا نلاحظ أن المسؤولين لا يتحدثون إلاّ عن توقيع العقود مع الشركات العالمية ،وأن مدة انتهاء التنفيذ تستغرق سنيناً. هذا غير صحيح بالمرة . نحن لا تعنينا تعداد المشاريع ولا طاقتها الإنتاجية ونحو ذلك من التفاصيل ذات الطبيعة الفنية ؛بل الذي يعنينا أن نحصل على الكهرباء الآن ،والآن فقط !