من خلال أحداث الانتفاضة المصرية ،برز على صفحات أجهزة الإعلام مصطلح أثار انتباهنا ،وهو مصطلح(البلطجية) .وظهر على شاشات الفضائيات أشخاصٌ يرتدون زيّاً شعبياً ويركبون البغال والجمال مهمتهم الفتك بالمتظاهرين أو تفريقهم ،ليّاً لسواعدهم ،وثنياً لعزمهم الذي أعلنوه صراحة أنهم يريدون رحيل النظام الفاسد في مصر .
وإني لم أعثر على أصل هذه التسمية في معاجم اللغة ،وأظنها تسمية محلية سائدة داخل المجتمع المصري . وقد تكون كلمة أعجمية مصحّفة تُطلق على مجموعة من الناس يقومون بأعمال إرهابية تزعج وتقلق وتؤذي السكان الآمنين ،ممّا يجعل الجماهير تضيق بهم ذرعاً ،وتتوسل بكافة الوسائل المشروعة لمواجهتهم ومدافعتهم وقمعهم . وقد يتعرض هؤلاء(البلطجية) لأشخاص الناس أو ممتلكاتهم أو أموالهم .
وبالنسبة للحالة المصرية التي شاهدها العالم من القنوات التلفزيونية أن هذه العصابة الرديئة لم تكن مجرد معارِضة تتبنى رأياً آخر ،هو غير الرأي الذي تبنته الجماهير الغاضبة في مختلف المدن المصرية الذين كانوا سلميين مسالمين ،وأنهم يؤيدون بقاء حسني مبارك رئيساً للبلاد؛ وإنما كشفت التقارير الخبرية والقرائن الأخرى أنهم فئة دفعت بهم الحكومة المصرية لتشتيت وتفريق الجماهير الغاضبة .
نعم يمكن أن تستعين بعض الأنظمة المعادية لشعوبها بقطاع الطرق وبعصابات السلب والنهب لتصفية بعض المعارضين، إمّا بشكل مستتر ،وإمّا بشكل علني رسمي وذلك بأن تضفي على هؤلاء بعض الألقاب ،أو منحهم رتباً عسكرية،لإتاحة المجال لهم بممارستهم أعمال القتل والترهيب للمعارضين ،وبغطاء رسمي . فلا تهم حينئذ التسمية ؛وإنما الأعمال الخطيرة التي يقوم بها هؤلاء هي التي تجعل المجتمع يرفض هذه العصابة .ولا يمكن لهؤلاء أن يقوموا بهذه الأعمال من غير غطاء سلطوي ،وإن حاولت السلطة التنصل عن علاقتها بهم .
والسؤال الذي يبرز هنا : هل أن (البلطجية) فئة يتميّز بها الشعب المصري، أم أنها ظاهرة عامة توجد في جميع المجتمعات البشرية الحاضرة والعراق منها ؟؟
ولكننا نعيد السؤال بصيغة أخرى : هل يوجد في العراق (بلطجيون) ؟؟
ولو علمنا بوجود (بلطجيين) عراقيين بيننا ،فمن حقنا التساؤل أين هم ؟فهل أنّ وجودهم مقصورٌ على طبقة محددة من طبقات المجتمع العراقي؟
وبعبارة أكثر تحديداً، هل أنّ ظاهرة (البلطجية) تخصُّ زماناً محدداً ،ومكاناً معيناً ، أم أنها ظاهرة لا تتحيَّز للمكان ولا للزمان ؟
وإذا كان صدام قد أحاط نفسه بفيالق من (البلطجية) فهل يحقُّ لنا التصور بأنّ أولئك انقلبوا على أنفسهم بمجرد غزو العراق من لدن قائدة (البلطجية) في العالم الولايات المتحدة ؟؟
نحن نعرف أن الإرهابيين الذين يقتلون الناس الآمنين بحجة مقاومة المحتل ،هم (بلطجية) من الطراز الأول .
كما أننا نعرف أن عصابات الخطف والتهجير والقتل على الهوية ،هم بلطجية من الطراز الأول أيضاً .
ولكن هل توقف الأمر عند هؤلاء فقط ؟
بالتأكيد نحن لا ننتظر أن تحدث انتفاضة جماهيرية في مدن العراق ،ثم يأتي (البلاطجة) يمتطون البغال والأباعر ليضربوا المنتفضين بالعصي والهراوات، أوبأسلحة (القنـّاص) من أسطح البنايات المطلة على الساحة التي يحتشد فيها المنتفضون !!
ولكننا نتسائل : ماذا يفعل الشعب المصري لو انقطع عنه الكهرباء عشر ساعات متصلة في أيام الحر وفي أيام البرد ،وأقسام الجباية في مديريات الكهرباء تستحصل أجوراً كاملة من المواطنين ؟؟
ثم ماذا يفعل الشعب التونسي لو قام شرطة ( أف بي أس) بإهانته وإذلاله يومياً ؟؟
وماذا يفعل الشعب الأردني لو انقطعت به السبل نتيجة تجمع مياه الأمطار في الشوارع الرئيسية والفرعية كالأنهار المستوردة من دول الجوار ،وتجمع الأتربة في فصل الصيف في جميع الشوارع والساحات ؟؟
ماذا يفعل الشعب الجزائري لو ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب ،وارتفاع مستويات الفقر والأمراض المزمنة حداً مخيفاً يثير الفزع وبلادهم من الدول المنتجة والمصدرة للبترول ؟؟
وماذا يفعل شعبٌ في الدنيا ،يقتطع فيه مراقبوا البلدية أجور عمّال النظافة المساكين ؟؟
وماذا يفعل شعبٌ تسرق فيه دوائر البلدية أرضه ويمنحها المفسدون فيها إلى أناس بعنوان (المساطحة) ،في وقتٍ يعني البلد من أزمة السكن الخانقة؟
وماذا يفعل شعبٌ يعملُ أبناءه حمّالين للأمتعة على ظهورهم وصبّاغي أحذية ،وبلدهم من البلدان الغنية بالبترول ؟؟
وماذا يفعل شعبٌ مصدر عيش عوائل فيه القمامة التي تتكدس في الشوارع ؟
وماذا يفعل شعبٌ في بلد غني لم ير أغلب أبنائه الطائرة ،ولم يُسافروا للراحة والاستجمام إلى بلدان العالم ؟
وماذا يفعل شعبٌ تسرق مدخراته شركات الاتصال العاملة في بلاده ؟؟
وماذا يفعل شعبٌ يسرقُ فيه وزراء الحكومة أموالاً طائلة تقدر بملايين الدولارات ،ثم يهربوا خارج البلاد مستصحبين هذه الأموال ؟
إذن ظاهرة (البلطجة) يمكن أن توجد في كل مكان وزمان، داخل مؤسسات الدولة وخارجها ،لكن المخيف أن تكون (البلطجة) هي القاعدة ،ونقيضها هي الاستثناء !!