١ مرّ بنا من خلال سرد روائي نقدي أن الامام الكاظم أمضى في السجن ما يقرب من اربع سنوات ، وليس سبع سنوات أو اربع عشرة سنة ، ومضى بنا إنه لم يتعرض لتعذيب ، إنما تعرّض لمضايقة في ايامه الاخيرة من سجنه لدى السندي بن شاهك ، ولم يُقيَّد بحديد ، وكان يُسجَن في بيوت الامراء وقصورهم ، وليس في كهوف أو تحت الارض ، وكان محل اهتمام سجَّانيه الكبار ، خاصة الفضل بن الربيع ، والفضل بن يحي البرمكي ، وقد رفض هؤلاء قتله كما تقول الروايات الشيعية ، كان اشبه ما يكون سلام الله عليه في اقامة جبرية . ولكن كيف كان يقضي أيامه في سجنه ؟ الاتجاه العام يصوره بانه كان عليه السلام مشغولا بالعبادة ، من صلاة وصوم وقراءة قرآن ودعاء ، ويبدو لي أن انصرافه للعبادة البحتة في سجنه كانت جزءا من توجهه العام في حياته ، أي لم تكن هذه السيرة اضطرارية ، بل هي امتداد لسلوكه التديني العبادي العام ، فقد قال المفيد في ارشاده : ( كان أبو الحسن موسى عليه السلام أعبد أهل زمانه وافقههم واسخاهم كفاً وأكرمهم نفسا ) ١ ص، من المؤكد أن الشيخ المفيد ينطلق في هذا التقييم من أخبارٍ وصلت إليه ، ومن منطلق إيمانه بإمامته ، وهذا المنطلق سابق على الاخبار بطبيعة الحال ، ولكن هناك توافق بين علماء عصره ، وتوافق بين كتاب السير والتراجم إنه سلام الله عليه كان من العُبَّاد . لقد مضى بنا خبر سجنه في البصرة ، وكيف أن الامير عيسى بن جعفر بن أبي جعفر كان قد كتب للرشيد عن تدين الامام ، وانصرافه التام للعبادة في السجن ، وهي شهادة آخرين أيضا . لقد نصّ كتاب السير والتراجم مثل البغدادي والذهبي وابن خلكان ، كذلك كتاب الحديث والآثار على أن الكاظم كان (عابدا ) ، ليس في سجنه بل في حياته ،والمرء حقا يستاءل عمَّا يمكن أن يفعله مثل الإمام الكاظم عندما يكون مسجونا ،حيث لا سمير، ولا شريك ، ولا مصاحب ؟ ليس هناك غيرالعبادة ، بل قد تكون في حسابه فرصة العمر كي يتفرَّغ لله تبارك وتعالى . يروي صاحب اعلام الورى : ( كان يصلي نوافل الليل ، ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقِّب حتى تطلع الشمس ، ويخرُّ لله ساجدا ، فلا يرفع راسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس ... ) ٢ص . قال الخطيب البغدادي : ( أخبرنا الحسن بن ابي بكر ، اخبرنا الحسن بن محمَّد العلوي ، حدَّثني جدي ، حدَّثني عمّار بن أبان قال : حُبِس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي ، فسألته أ خت ان تتولى حبسه ـ وكانت تتدين ـ ففعل ، فكانت تلي خدمته فحكى لنا أنها قالت : كان إذا صلَّى العتمة حمد الله ومجَّده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل ، فإذا قام يصلي حتى يصل الصبح ، ثم يذكر قليلا حتى تطلع الشمس ، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ، ثم يتهيا ويستاك وياكل ، ثم يرقد إلى قبل الزوال ، ثم يتوضّأ ، ويصلي حتى يصلي العصر ، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب والعتمة ، فكان هذا دأبه ، فكانت أُخت السندي إذا نظرت إليه قالت : خاب قوم تعرَّضوا لهذا الرجل ، وكان عبداً صالحا ) ٣ / تاريخ بغداد ١٣ ص ٣١ . نقرا ايضا : (دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي : إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى ؟ فقلت : ثوباً مطروحا فقال : أنظر حسناً فتأملت فقلت : رجل ساجد ، فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ... ) ٤/ بحار الانوار نقلا عن امالي الصدوق ٤٨ ص ١٠٧ ح ٩ / نقرا كذلك : ( ...حدُّثني الخرزي أبو العباس بالكوفة قال : حدَّثني الثوباني قال : كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ـ بضع عشرة سنة ـ كلَّ يوم سجدة بعد إبيضاض الشمس إلى وقت الزوال قال : فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الَّذي حبس فيه أبا الحسن عليه السلام فكان يرى ابا الحسن ساجداً فقال للربيع : ما ذاك الثوب الّذي أراه كلَّ يوم في ذلك الموضع ؟ قال : يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب إنَّما موسى بن جعفر له كلَّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال ،قال الرَّبيع : فقال لي هارون : أما إنَّ هذا من رهبان بني هاشم ، قلتُ : فما لك فقد ضيَّقتَ عليه في الحبس ؟ قال : هيهات لابدّ من ذلك )٥ / البحار٤٨ ص ٢٢٠ ح ٢٤ / أنْ تتصعد الحالة العبادية لدى الامام في السجن امر طبيعي ، وربما كثرة صلاته وتهجدة لون من لون المقاومة والتحدي ، فالله تعالى يوصي عبد أن يستعين بالصبر والصلاة ، فما المانع إذا قلنا كان الامام يتحدى سجانيه وطغاة الحكم بهذا السلوك العبادي العظيم ؟ مشكلة هذه الروايات ضعف السند ، ولكن ربما يسهل قبولها كون اتفاق العام والخاص على كونه عابدا ، ليس قبولها حرفيا ، وإنما قبولها على نحو عام ، فبإمكاننا أن نقول إن الامام كان منشغلا بالعبادة في سجنه ، بصرف النظر عن هذه الرواية أو تلك . ٢ هناك اخبار تفيد بان الامام الكاظم نصّ على ولده الرضا من داخل السجن ، فكان إذن يمارس نشاط خطير وهو في الحبس ، وهل هناك ما هو أخطر من تعيين الإمام من بعده ؟ لنقرأ هذه الروايات نقديا ... ١ : يروي الصدوق ( حدَّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ،رضي الله عنه قال : حدثنا محمّد بن الحسن الصَّفار ، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى ، عن عبد الله بن محمَّد الحجال واحمد بن محمّد بن أبي النصر البزنطي ومحمَّد بن سنان وعلي بن سنان وعلي بن الحكم ، عن الحسين بن المختار قال : خرجت إلينا ألواح من أبي إبراهيم موسى عليه السلام وهو في الحبس ، فإذا فيها مكتوب : عهدي إلى أكبر ولدي ) ٦ / عيون ٢ص ٣٩ ح ٢٣ . مصدر الرواية من أعلى هو: (الحسين بن المختار القلانسي ) لم يذكره علماء الرجال بمدح أو ذم ، سوى أن الشيخ المفيد قد وثَّقه ، فقد عدَّه من خاصَّة الكاظم عليه السلام ووصفه بانه ( من أهل الورع والعلم والفقه ومن شيعته ) ، اي شيعة الامام الكاظم ، وقد بنى الخوئي على توثيق الشيخ المفيد هذا وثاقة القلانسي ، وفي ذلك كلام طويل ، فهناك من يرد توثيقات الشيخ المفيد كما هو الشيخ المحسني بقوله : ( وجه التوقف وعدم الاعتماد على هذا التوثيق ـ توثيق الشيخ المفيد لبعضهم ـ مع جلالة الشيخ المفيد وعلو ودقة نظره غلبة الاحتمال بان التوثيق المذكور ساق مساق الغالب بلا ملاحظة حال كل واحد من الرواة ، كما يدعمه بعض القرائن ... ) ٧/ بحوث في علم الرجال ص ٢٢٥ / وفي تصوري إنَّ الشيخ المفيد وثَّقه لأنه كان من الشهود على تنصيص الكاظم على امامة الرضا من بعده ، وهي ذات الحالة في توثيقه لـ ( محمّد بن سنان ) رغم كونه ضعيفا جدا ، وما ذلك كما يبدو لي إلاّ لانه كان احد شهود التنصيص المذكور . الصدوق يرويها بسند آخر ينتهي إلى الحسين بن المختار هذا : ( حدَّ ثنا أبي رضي الله عنه ، قال حدَّثنا سعد بن عبد الله ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبد الرحمن ،عن الحسين بن المختار قال : لما مرَّ بنا أبو الحسن عليه السلام بالبصرة خرجتْ إلينا منه ألواح مكتوب فيها بالعرض عهدي إلى أكبر ولدي )٨ / عيون ص ٣٩ ح ٢٤ / يبدو أنهما رواية واحدة ، واستبعد أن هذه الالواح التي يتحدث عنها الحسين بن المختار خرجت مرّتين ، وبالتالي ، تكون العملية قد حدثت في البصرة ، ولكن تارة نفهم أن الالواح خرجت من داخل السجن وأخرى نفهم أن الالواح من الامام مباشرة وهو في طريقه الى البصرة ، وكونها من خارج السجن ،اي أثناء مرور الامام بالطريق من المدينة إلى البصرة اكثر مقبولية من حيث الظروف الموضوعية والواقعية للحدث كله ، وفيما اردنا ان نوغل بالاسئلة سيكون من الصعب قبول ارسال هذه الكتب من داخل السجن ، تُرى هل كتبها الامام وهو بالسجن أم حملها معه من المدينة ؟ وفيما الرواية تفيد أن الكتب خرجت من السجن ولم تسلَّم في السجن إنما يفيد إن الامام كان له من يستعين به داخل السجن لمثل هذه الامور ، وهذه القضية بحد ذاتها تحتاج إلى دليل ممِّا يزيد في تعقيد قبول كون هذه الكتب خرجت من داخل السجن ، ثم أين هي عيون السلطة ؟ إنَّ تفسير الامور التاريخية بالمعقول أو ما هو اقرب للمعقول والواقعية اجدر من تفسيرها غيبيا او بطرائق معقدة جدا ،وليس بعيدا أن قول الراوي حسين بن المختار : ( وهوـ أي الإمام ـ في الحبس ) تعبير مجازي ، لان الامام كان في طريقه للحبس ، هذا وقد اغفل الراوي من شاركه وهناك رواية أخرى تفيد مثل هذا الموقف بصرف النظر عن صحتها ، سوف آتي عليها بعد قليل . المفارقة هنا ان الحسين بن المختار تدور حوله شبهة الوقف ، لقد نصَّ على وقفه الشيخ الطوسي في ( رجاله ) ، قائلا : ( واقفي، له كتاب ) ٩ / معجم ٦ رقم ٣٦٤٣ / وحاول السيد الخوئي أن ينفي عنه تهمة الوقف اعتماداً على توثيق الشيخ المفيد له ! ومستفيداً من عدم نسبته للوقف في فهرست الشيخ ورجال النجاشي ! ولست أدري كيف يكون عدم ذِكر هذه النسبة على لسان الشيخ الطوسي في كتابه ( الفهرست ) طريقا الى نفيها بعد أن ثبتت لدى الشيخ الطوسي في كتابه ( الرجال )؟ وبالمثل لستُ أدري لماذا يكون عدم ذِكر هذه النسبة صراحة على لسان النجاشي نفيا لما اثبته الشيخ الطوسي في كتابه ( الرجال ) ؟ فكان هناك اصرارا على تنزيه وتوثيق الرجل ، ويبدو أن السبب الكامن وراء ذلك هو شهادته تنصيص الامام الكاظم على ولد الرضا عليهما السلام . الحقيقة إنه لمن دواعي الدهشة أن ( يقف ) الحسين بن المختار على الإمام الكاظم وهو الذي خرجت إ ليه الالواح الصريحة بتنصيص الكاظم على ابنه الرضا ! نقرا ما هو قريب إلى ذلك في رواية الصدوق : (حدَّثنا أبي رضي الله عنه ، قال : حدّثني سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن مرحوم قال : خرجتُ من البصرة أُريدُ المدينة فلما صرتُ في بعض الطريق لقيتُ أبا ابراهيم عليه السلام وهو يذهب إلى البصرة فارسل إليَّ ، فدخلتُ عليه فدفع إليَّ كتبا ،وامرني ان اوصلها بالمدينة ، فقلتُ :إلى من أدفعها جُعلْت فداك ؟ قال : الى ابني علي ، فإنّه وصيِّ والقيِّم بامري وخير بني ) ١٠ / عيون ٢ ص ٣٦ / وبصرف النظر عن صحَّة الرواية او عدم صحَّتها تفيد أن ابن مرحوم استلم الكتب في الطريق ، وليس في السجن ، وقوله : ( فدخلتُ عليه ) ليس في السجن ، وإنما في الهودج اوالمكان الذي حُمِل فيه ، أو ربما محل اقامة الموكب للاستراحة مثلا ، فالامام إنما دخل السجن في البصرة وليس في الطريق من المدينة الى البصرة . ٢ : يروي الصدوق (حدَّثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ... عن احمد بن محمد بن عيسى الاشعري ،عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن أخيه الحسين ، عن أبيه علي بن يقطين قال : كنتُ عند أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وعنده علي ابنه عليه السلام فقال : يا علي هذا ابني سيد ولْدِي ، وقد نحلته كنيتي ، قال : فضرب هشام ، يعني ان سالم يده على جبهته ! فقال : إنَّا لله وإنَّا له راجعون نعي والله إليك نفسه ) ١١/ عيون ص ٣١ ح ٢ / وربما يستشعر بعضهم أن ذلك كان في السجن ، بدلالة نعيه لنفسه ،ولكن لا يوجد ما يدل على ذلك ، تُرى كيف لعلي بن يقطين أن يصل للإمام وهو في سجن السندي بن شاهك وعلي بن يقطين كان وزير الرشيد ، والرشيد كان يشك بولائه للإمام كما يقولون ، وكان تحت المراقبة والرصد ؟ ! اذا كانت الرواية صحيحة ربما كان ذلك خارج السجن ، وربما بعيدا عن رصد جواسيس ورجال السلطة . هذا الاحتمال له ما يؤيده ، ففي المصدر نفسه نقرا : ( ... عن علي بن يقطين : كنتُ عند العبد الصالح موسى بن جعفر عليهما السلام جالسا ، فدخل عليه ابنه الرضا عليه السلام فقال : يا علي هذا سيِّد ولدي ، وقد نحلته كنيتي ، فضرب هشام براحته جبهته ! ثم قال : ويحك! كيف قلتَ ؟ فقال علي بن يقطين : سمعتُ والله منه كما قلتُ لك ، فقال هشام : اخبرك والله أن الامر فيه منْ بعده ) ١٢ / نفسه ص ٣٢ / إن الجمع بين الروايتين يفيد بان الحديث بين الامام وعلي بن يقطين هذا كان خارج السجن ، وكان بعيدا عن عيون السلطة وجواسيسها ، هذا اقرب للواقعية في تفسير الحدَث . الواقع إني استعرض هذه القضية من خلال هذه الروايات لان بعض المبالغين في الكتابة عن حياة الامام الكاظم يدعي أن الامام كان على صلة بما يسميه ( قواعد الامام الشعبية ) من داخل السجن في سياق تنظيم ممنهج دقيق كان الامام يقوم على راسه ، وقد كنت من المولعين بمثل هذه الافكار ، ولكن قرائتي الجديدة لحياة الامام عليه السلام لم تسعفني بمثل هذا الراي ، يؤكد على قضية التنظيم السري هنا بعض المولعين بالعمل الحزبي كما هو معروف . إن الروايات السابقة إنْ ثبتَ صحَّتُها لا تفيد إن الامام سرَّب من داخل سجنه هذه الكتب ، ولا تفيد بان هناك تنظيما سريِّا استعان به الامام من أجل ذلك فيما لو كان ذلك حقا قد حصل ، فما المانع فيما لو كان هناك منْ يتعاطف مع الامام من السجانين والامام استعان بهم لايصال هذه الكتب إلى الآخرين ، على أن عملية تسريب هذه الكتب المدَّعاة لم تحصل في مرحلة سجن الامام في بغداد ، بل إيحاءات الروايات تفيد بان ذلك حصل أثناء الطريق من المدينة الى البصرة . ٣ : ولم تكتف بعض الروايات بهذا النشاط بل هناك ما هو اخطر ، ففي رواية إن الامام ومن داخل سجنه في بغداد كان قد فك قيوده من رجليه ، ومضى مسريا الى المدينة المنورة في ليلة قبل وفاته ليلقي أمر الولاية من بعده الى ابنه الرضا عليه السلام ! ثم عاد في ذات الليلة وقد أعاد القيد الى رجليه كي لا يتضرر سجانه فيما لو علم بذلك السعاة ! ١٣ / نفسه ص ٩٧ / والرواية خرافية اسطورية بامتياز إن كل نشاط الامام في السجن كان العبادة وحسب ، وسوف اواصل الحديث عن ذات الموضوع في مناسبات قادمة باذن الله يتبع .