وإزاء نمطية تصعيد وصفت بأنها الأكثر حدة عما سبق من سجال التوترات السابقة بين الكوريتين.. باتت المخاوف تنتاب المسؤولين الاميركيين، وكذا في سيئول نتيجة عبور لهجة التصعيد الى حافة التهديد المباشر بشأن الحرب الشاملة، الامر الذي اثار مخاوف جدية ليس في الداخل الاميركي وحسب.. بل عند جميع حلفاء الولايات المتحدة.
ففي اعقاب التصريحات التي اطلقها الزعيم الجديد لكوريا الشمالية الشاب (جيم جونغ وون) لم تتوان الادارة الاميركية عن أخذ تلك التصريحات وما جاء فيها من تهديدات على محمل الجد.. إذ سارعت الى إتخاذ تدابير غير مسبوقة في الايام الاخيرة، كما عمدت الى إرسال طائرات مقاتلة من طراز (شبح) الى حليفتها الجنوبية في إطار مناورات عسكرية كانت مستمرة ومجدولة من قبل.
ورغم التضعيف الذي يسوقه المحللون الاميركيون إزاء احتمالات توجيه بيونغ يانغ لضربات صاروخية او جوية للقواعد والاراضي الاميركية او قواعدها المنتشرة في المحيط.. إلا ان سياقات التحليل لم تستبعد ان تقود وتيرة التصعيد الى أشكال معينة من المواجهة العسكرية بين الجانبين.
ولعل بعض موارد القلق تفاقمت مؤخراً بعدما صعدت كوريا الشمالية من لهجتها لتصل بها الى مستوى إعلان (حالة الحرب) مع سيئول، وأنها ستعمد لمعالجة جميع القضايا مع جارتها الجنوبية بوسائل الحرب، والتشديد بان وضعية (اللا حرب واللا سلم) المستمر منذ عقود في شبه الجزيرة الكورية قد انتهى.. وقد وصفت بعض المصادر الاستراتيجية هذا التصعيد في الخطاب بانه اعلى مستوى من التوتر بلغته حدة الخلاف في شبه الجزيرة الكورية حتى الآن.
وفي سياق ردود الفعل.. أكدت وزارة (إعادة التوحيد) الكورية الجنوبية في بيان أنّ تصعيد خطاب بيونغ يانغ الاخير لا يشكّل تهديداً حقيقياً.. بل هو جزء من سلسلة تهديدات استفزازية.. مشددة الوزارة على بيونغ يانغ ضرورة إيقاف وتيرة التصريحات الاستفزازية تلك، ومذكرة بأن التدريبات التي تجريها مع القوات الاميركية إنما هي تدريبات عسكرية سنوية مجدولة ولأغراض دفاعية صرفة.
من جانبها ولإمتصاص ردود فعل بيونغ يانغ التصعيدية شددت واشنطن على حليفتها سيئول بضرورة وقف كل اشكال التهديدات بغية تنفيس مواطن التصعيد، مذكرة بيونغ يانغ بان تدريباتها مع الجنوبية هي دفاعية محضة. غير ان الدوائر العسكرية الاميركية عمدت بذات الوقت الى اعلان حالة التأهب والاستعداد لمضمون التهديدات الكورية مشددين انهم يحملونها بالفعل على محمل الجد.
هذا ولم تخلُ ردود فعل العواصم الكبرى من الدعوة الى ضبط النفس وتنفيس الازمات وضرورة العودة الى طاولات الحوار مجددا.. فمن جهتها دعت موسكو الكوريتين واميركا الى التحلي بالمسؤولية وممارسة أقصى درجات ضبط النفس خشية انفلات الامور عن نطاق السيطرة والوصول الى نقطة اللاعودة.
على اية حال.. تقديرات العديد من الخبراء الاستراتيجيين إستبعدت ان يقود التصعيد الاخير بين الكوريتين والتهديدات المتبادلة الى حرب شاملة.. مشيرين الى ان مرامي بيونغ يانغ من تشديد حدة التصريحات هو السعي للحصول على مزيد من المكاسب المادية والسياسية من جارتها الجنوبية..
ورغم ذلك فإن العديد من الاوساط الاستراتيجية الاميركية حذرت من ان واشنطن غير مؤهلة في الوقت الراهن للدخول او الاشتراك في حرب شاملة وربما نووية.. نظراً لكونها لاتزال في وضع المكدود والمنهك بالنسبة للفاعلية العسكرية في الخارج، نظراً لكونها مازالت تلعق جراحها العسكرية في المستنقعين العراقي والافغاني.. وان هناك تركة مهولة من الآثار التي خلفتها حروبها في افغانستان والعراق ما زالت بحاجة الى التسوية والتصفية في الاوساط العسكرية والسياسية في الداخل الاميركي..
ويقدر الخبراء ان ما يضاف الى كل ذلك هو حجوم التأثير السلبية المهولة التي خلفتها ومازالت الازمة المالية الناشبة في اوصال الاقتصادي الاميركي والغربي وما يرافقها من استحقاقات تنعكس بالسلب على موازنات الدفاع العسكرية الاميركية.. فكيف إذن بموازنات الاشتراك في حروب خارج الحدود الاميركية.
وبذات الوقت.. وفي الجانب الاخر.. فإن كوريا الشمالية هي الاخرى لا تمتلك في الوقت الراهن المقومات العسكرية واللوجستية الحقيقية التي تمكنها من تفجير صواعق حرب شاملة ضد جارتها الجنوبية وحليفتها الولايات المتحدة، نظراً لعدم امتلاكها للصواريخ البالستية المتطورة التي تتمكن مدياتها من ان تطال المدن الاميركية.. وقبل هذا وذاك فإن بيونغ يانغ تدرك جيداً أن أية مغامرة عسكرية واسعة النطاق ضد جارتها الجنوبية وحليفتها العظمى سيمثل لها إنتحاراً سياسي مريعاً.. وان خيار الاستمرار بمواصلة سباق التسلح النووي وتنمية وتطوير منظومات الردع ضد سيئول وواشنطن.. سيكون هو الخيار الانجع لها في الوقت الراهن..
بالمحصلة.. فإن من المؤكد ان تخطي حدود التهديد الى مرحلة إعلان حالة الحرب في شبه الجزيرة الكورية سيحمل بيونغ يانغ الى تعزيز تحالفاتها مع عمقها الاستراتيجي الصين وروسيا، الى جانب الاستمرار في تحسين منظومات الردع ومواصلة سباق التسلح.. وفي الوقت ذاته فإن سيئول ستجد هي الاخرى نفسها مرغمة على مواصلة تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، وتمتين روابطها العسكرية معها.. وربما ستؤول الامور الى منح رخص لقواعد اميركية جديدة في الجغرافية الكورية.. الى جانب تعزيز قدراتها الاستخبارية المتطورة المستندة الى منظومات الرقابة عبر الفضاء بغية التلصص على جارتها الشمالية وتقييم إستعدادتها العسكرية واللوجستية من اجل تحليل مستويات استعدادها لتأجيج حقيقي وفعلي للحرب في المستقبل.
وفي الصعيد الاميركي.. فإن موجة التصعيد الاخيرة ستضع تحت أبط ذوي القرار العسكري الذرائع الكافية للمطالبة بمعدلات انفاق عسكري اكبر للعمليات العسكرية ما وراء الحدود الاميركية.. على الرغم من مستويات الاحباط الكبيرة التي ألمت بذوي القرار المالي وضعف قدرات اقناع المانحين ووهن منظومة الضرائب التي كانت تشكل سنداً لتعزيز الترسانة العسكرية الاميركية على مدى عقود عديدة.