في العام ١٩٨٥، رقد ولدي، علي، في مستشفى ببريطانيا لمدة عام تقريبا بانتظار أجله. كنا انا وأمه نتناوب السهر. عين عليه وعين أخرى على أطفالنا القصّر. يائسين، بحال لا نتمناها حتى لعدونا. تبرع صديق لي من اهل الموصل ان يشاركنا، هو وزوجته، السهر على ولدنا كي نوفر وقتا للاهتمام بأطفالنا الصغار الذين كنا نضطر لتركهم لوحدهم في البلد الغريب. سهر سفيان ذات ليلة مع علي بالمستشفى الى أن جئته في الصباح التالي لأحل محله. وجدته يبكي. ظننت ان ولدي قد مات. قال لي: كلا، لقد ابكتني الممرضة ليلة البارحة. ليش؟ كان الوقت يقارب الرابعة صباحا وكنا نيام والطفل فاقد وعيه تماما. جاءت الممرضة وركبّت له المغذي لكن قطرات منه سقطت بالخطأ على غطاء الطفل. لم يرها أو يسمعها أحد. حتى أنا كنت غافيا. استيقظت على صوتها وهي تعتذر "آسفة يا علي..ما كنت أقصد ذلك ايها الطفل الجميل..أعذرني..أعاهدك اني لن أكررها". أنهى صاحبي الحكاية وبكى مرة أخرى. إي ليش تبجي؟ لأن خجلتني يا هاشم. فهل فينا نحن، من ندعي بأننا خيرة الناس أخلاقا، من يعتذر بإنسانية مثل هذه الانكليزية؟
اظن ان الذي ابكاني في اعتذار كاميرون لفريقنا هو الخجل ذاته الذي ابكى صاحبي سفيان. يعتذر عن خطأ صدر عن جريدة "الاندبندنت"، وهو ليس صاحبها او ممولها. يعتذر لأنها تصدر في بلد هو رئيس وزرائه. يعتذر رغم ان التقرير الذي كتبته الجريدة كان كله مدحا وتمجيدا لمنتخبنا وانتقادا لاذعا لمنتخبهم. جاء اعتذار كاميرون عن عبارة في العنوان وصفت لاعبينا أنهم "أطفال الحروب". من يقرأ التقرير سيعرف بوضوح ان القصد كان مدح شبابنا الذين، رغم انهم تربوا وعاشوا تحت ظل الاحتلال والإرهاب، أبعدوا أبناء انجلترا المدللين (مثل أبناء المسؤولين القاطنين في الخضراء ببغداد) عن الكأس. انها ترجمة لما غناه مطربونا: "هذا لاعبنا العراقي من المآسي جاب فرحة"، لكن بحسجة انكليزية!
اعتذرت يا كاميرون والجريدة ومحرروها ليسوا من قواتك الأمنية. فما الذي كنت ستفعله لو اعتدت قواتك على اللاعبين وسط الملعب وقتلت مدربهم حتى الموت؟
يا ديفيد، ان نوري الذي عندنا يرى في الاعتذار مذلة. واننا شعب، حتى وان قتلت قواته نجومنا في وضح النهار لا نستحق منه الاعتذار. لقد علموه ان دولة "المؤمن" لا يعتذر حتى وإن هرّب سارقا وتستر على قاتل وقصر في حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم واكتفى بحماية نفسه وأبنائه وأحفاده والمقربين منه في خضراء الدمن.