ان "وجع البصرة" بعد ان خسر المالكي ادارتها اثر انتكاسته في اقتراع نيسان الماضي، لايزال يتحكم بـ"لاشعوره السياسي" ويساهم برفع درجة فقدانه الى التوازن، بنحو لا يقل عن "وجع" اربيل او الانبار، او النجف التي ترفض استقباله. انه لا يطيق رؤية مراكز قوى مهمة تمتنع عن الركوع لسلطانه، ولذلك فان المالكي سيتوجع كثيرا حين يستمر في سماع ردود البصرة عليه، وحديث اكثر من سياسي بصري قال له بوضوح: ان البترودولار ليس مكرمة منك، لتتحكم في توقيتات صرفه او منعه.
لكن وجعه سيكون اكبر ان ساعده مستشاروه في استذكار مرافعة اعتراضية مهمة ضد سياساته مع البصرة، لم تأت من خصومه، بل من داخل حزبه وعلى لسان المحافظ السابق خلف عبدالصمد القيادي البارز في ائتلاف دولة القانون، الذي قال قبل سنة ونصف ان الحكومة تحرم مدينته من مشاريع بقيمة مليار دولار، وهي عبارة تتولى تقويض خطاب يوم الاربعاء الذي حاول السلطان فيه ان يبدو ذكياً جداً وحكيما يحرص على تلقين "اطفاله" قواعد انفاق المال.
لكن محاولة المالكي ان يظهر كذكي وحكيم حريص على اولاده الصغار وفلوسهم، لم تنجح وأوقعته في تلعثم مفضوح. فمن جهة حاول ان يقول للمحافظات النفطية بأنه يعترف بحقهم في الخمسة دولار، دون ان يوضح لهم لماذا قام حزبه بالطعن لدى الاتحادية في ذلك. وحاول ان يظهر كمدير ناجح "ينفق المال بحكمة" وراح يقول بلهجة ساخرة من الحكومات المحلية، ان المحافظات تفشل في انفاق موازناتها الاعتيادية، وحين تتمكن من ذلك سيكون السلطان مسروراً بمنحها باقي المبلغ! فجاءه الرد على لسان احمد السليطي من مجلس البصرة، واضحا ومحددا نوع اللهجة التي سيظل المالكي وكل خلف له يرفض معايير الادارة الحديثة: ليس المال مكرمة منك لتتحكم بمواعيد صرفه، فهذا قانون شرعه البرلمان.
ذكرني حديث المالكي الاربعاء بنحو خاص، بشكوى رهيبة اطلقها حليفه البارز خلف عبدالصمد في حزيران ٢٠١٢ وحين كانت اطراف كثيرة تحشد لسحب الثقة من المالكي واستجوابه. عبد الصمد المقرب من رئيس الحكومة جدا، ومحافظ البصرة السابق ورئيس مجلسها اليوم، كشف يومذاك ان مجلس الوزراء يقوم بتعطيل اكبر ٧ مشاريع في المحافظة. وقال لاكثر من وسيلة اعلام ان المشاريع المعطلة تبلغ قيمتها نحو مليار دولار. وان التعطيل يظل بلا مبرر.
المحافظ السابق كان ايضاً يدق جرس الانذار، ويقول ان مجمل اجراءات الحكومة المرتجلة جعلت تجار البصرة ينقلون انشطتهم الى كردستان الاكثر تحررا في الاقتصاد، ويطالب بمراعاة خصوصية محافظته ومنحها ما يليق من صلاحيات، كمدينة تملك ٦٠ في المائة من احتياطي النفط في العراق ونحو ١٠ في المائة من الاحتياطي العالمي، وهي المدينة التي تقع فيها كل موانئ البلاد الستة، ولديها منافذ حدودية مع ايران والسعودية والكويت.
العودة الى التصريح القديم لعبد الصمد، تذكرنا ايضا ان إلقاء اللوم على المحافظات التي تتلكأ في صرف ميزانياتها، هو لوم لحزب الدعوة نفسه الذي كان يدير معظم المحافظات وعلى رأسها البصرة، دون ان يفلح في استثمار اموال البترول بنحو يناسب تلك الظروف الامنة نسبياً في الجنوب، والمال الوفير المتاح، والفرص الكبيرة المضيعة. انه "وجع" سيلاحق المالكي وكل سلطان يرفض فهم الواقع السياسي الجديد، ويحلم ان يركع الجميع لمشتهياته ونزواته وتلعثمه المتواصل.