بعد ستين عاماً تقريباً حذر ملك الأردن الحالي من خطر هلال شيعي، يمتد من إيران غرباً حتى حزب الله في لبنان، كل ما يخشاه الأردن والكيان الصهيوني والأنظمة الرجعية وراعيهم الأمريكي نشوء دولة قوية أو تحالف قوي من دول المنطقة مهدد لوجودهم ومصالحهم، ليس المهم الهلال وإنما صفته، وعلى أي حال فقد مرت الأشهر والسنون ولم يبزغ هلال شيعي، فهل ابتلعه الحوت؟
في النهاية الغربية للهلال الشيعي المفترض حزب الله، ولا جدال في أنه شيعي، وهو كيان متماسك وقوي، بل لعله الأقوى في المنطقة، في ميزان القوى الإقليمي، من يجرأ على المس به يدفع الثمن، و ما زالت مرارة الهزيمة على أيدي حزب الله تعكر صفو حياة الصهاينة، ولم تخفف منها كل رسائل التعاطف والمؤازرة من حكومات الغرب والخليج وحلفائهم اللبنانيين.
الحلقة الثانية في الهلال الشيعي المفترض هي سورية، والظاهر عكس ذلك، إذ السلطة في سورية بيد حزب البعث، وهو حزب علماني، وانتماء الرئيس السوري للطائفة العلوية المحسوبة على الشيعة وكذلك ثلة من كبار ضباط المخابرات لا يغير جذرياً في طبيعة النظام، إذ لا تتوفر فيه أغلب مقومات وثوابت التشيع، وحتى اصطفافه ضمن ما يعرف بمحور المقاومة أو الممانعة نابع من عقيدة قومية ووطنية لا دينية أو مذهبية، وقبل اتهام النظام السوري باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الحريري واخراج القوات السورية من لبنان كان النظام السوري حريصاً على نسج أفضل العلاقات مع النظام السعودي، العدو التقليدي للشيعة في المنطقة، ولولا رضا الرئيس الأسد الأب وأعوانه لما استطاع الحريري الأب وأتباعه احكام سيطرتهم على المشهد السياسي في لبنان والهيمنة على الطائفة السنية فيه، وكان النظام السوري يضغط على الشيعة في لبنان ويفرض عليهم التخلي عن بعض استحقاقاتهم السياسية والتضحية بمصالحهم إرضاءاً للطرف السعودي، وكل التوافقات السياسية في لبنان بعد الحرب الأهلية بدءاً باتفاق الطائف تمت وفقاً لما يسمى بمعادلة الـ(س- س) أي التفاهم بين السعودية وسورية، وما كان لشيعة لبنان من خيار سوى التنفيذ، وفي المحيط الإقليمي سعى النظام السوري لتوطيد علاقاته مع تركيا الأردغوانية، وهي بالتأكيد خارج أي محور شيعي، وقد قاربت العلاقة بين النظامين مستوى الشراكة الاستراتيجية قبل أن تنهار تماماً وتتحول إلى عداء سافر بعد بدء القتال بين الحكومة والمعارضة السورية المسلحة ومؤازرة النظام التركي للمسلحين، وبالنتيجة لم يتبقى للنظام السوري بعد تخلي السعوديين والأتراك والقطريين عنه من حلفاء في المنطقة سوى حزب الله وإيران.
قبل أن يكتمل الهلال الشيعي المفترض عند إيران لا بد أن يمر بالعراق، فهل الحكومة العراقية ضمن المحور الشيعي؟ رئيس الحكومة العراقية المالكي شيعي، وهو يجأر بالشكوى من عداء بعض الدول المجاورة بسبب انتماءه الطائفي، ولكن المالكي حريص على النأي بنفسه عن أي محور شيعي حقيقي أو مفترض، ويردد أن حكومته تنتمي لمحور "الإعتدال" الذي يضم حلفاء الغرب، وسعى جهده للتقرب للأنظمة الطائفية المعادية للشيعة في الخليج، وحتى وقت قريب كان يتوسل رضا السعوديين وموافقتهم على فتح سفارة لهم في بلده، وما زال يزود النظام الإردني الذي حذر من الهلال الشيعي بالنفط الرخيص ويقدم له الدعم المالي، كما سعى للتودد للنظام المصري، وتركيا أكبر شريك تجاري للعراق، والأهم من كل هذه الحقائق التحالف بين العراق وأمريكا والدور الأمريكي الواضح في تسيير التوجهات العامة للحكومة العراقية، وقبل فترة غير بعيدة صرح مستشار للمالكي بأن حكومة المالكي أقرب لأمريكا منها إلى إيران، وكل حليف لأمريكا هو بالضرورة معادي لنشوء تحالف شيعي يكون لإيران وسياساتها المناوءة لأمريكا والكيان الصهيوني دور فاعل فيه، لذا فإن من السخف القول بأن حكومة العراق يمكن أن تكون طرفاً في حلف شيعي.
لم تجاهر إيران يوماً بسعيها لتكوين هلال شيعي، ولم تنصب نفسها مدافعة عن الشيعة وحامية لمصالحهم وحقوقهم، وهي لا تنحاز لطرف لمجرد انتماءه للمذهب الشيعي، والأمثلة على ذلك عديدة، فاثناء المرحلة النهائية من الحرب الأهلية في لبنان وقفت ضد حركة أمل الشيعية المدفوعة من النظام السوري لقتال بعض الجماعات الإسلامية السنية، كما مالت لجانب أرمينيا في حربها مع أذربيجان الشيعية المدعومة من أمريكا والغرب والكيان الصهيوني، ولم تساند المقاومة العراقية الشيعية المحدودة للإحتلال الأمريكي، وينتشر الاعتقاد بأن استمرار المالكي في رئاسة الوزراء ثمرة تفاهم بين إيران وأمريكا، ولا تقدم إيران للمعارضة البحرينية وشيعة السعودية سوى الدعم الإعلامي، وبالتأكيد فإن لإيران مصلحة حيوية في دعمها لحزب الله، إذ يشكل الحزب الشيعي القوي خط الدفاع الأول لإيران في المنطقة، وتشكل قدراته الصاروخية والقتالية الأخرى مصدر قلق عميق لدى الصهاينة وأتباعهم في البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي، وقد يكون ذلك السبب الرئيسي لتردد امريكا والكيان الصهيوني في الهجوم على إيران وتدمير منشآتها النووية والعسكرية والاقتصادية، ولكل هذه الأسباب يمكن الاستنتاج بأن إيران لم تكن متحمسة يوما ما لإنشاء هلال شيعي، وهي بعد فوز الإصلاحيين بالحكم اقل حماساً من أي وقت مضى.
لو كان البعض وبعد كل هذه الأدلة مصرين على تلمس رؤية هلال شيعي فأقول لهم ابحثوا عنه في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية، هنالك من ألهم الحوثيين في اليمن، وهم من قالوا: نحن لا ندافع عن لبنان فقط، وقد برهنت الأحداث على ذلك، فها هم اليوم يدافعون عن سورية الممانعة التي أمدتهم بالسلاح والعتاد، ويمنعون أعداء إيران من الاعتداء عليها.
عود على بدء في جنوب العراق وحوت خرافي يبتلع هلالاً فعلياً، لكن الحقيقة معاكسة لذلك تماماً، فالهلال الشيعي لم يولد، ولم يكن في نية قادة الشيعة تكوين حلف على أساس مذهبي، وبعض الشيعة مثل المالكي وأتباعه وحلفاءه غير معنيين بذلك أبداً، بل هم متحالفون مع أمريكا عدوة الشيعة مقابل الحفاظ على مناصبهم، والواقع أن المستهدف من تحذير الملك الأردني هم الشيعة المقاومون للهيمنة الغربية والاحتلال، ولو رضي النظامان السوري والإيراني بالتخلي عنهم لسكتوا عنهما، ولذلك وعلى الرغم من أن الهلال الشيعي وهم اختلقه عملاء أمريكا بأمر من عندها فقد جاؤوا بحوت فعلي ليبتلع أعدائهم ومعارضيهم في المنطقة، وهذا الحوت هو الذي احتل العراق لا لإسقاط النظام الصدامي الفاشي فحسب بل لمنع تمدد الفكر المقاوم إلى شيعة العراق، وفي ٢٠٠٦ هاجم الحوت انطلاقاً من الكيان الصهيوني المحتل لبنان فكانت هزيمته النكراء، وكان من المحتم أن يستهدف سورية عاجلاً لا آجلاً، ولعل قادة شيعة العراق وأتباعهم مندهشون من خذلان أمريكا لهم في حربهم ضد الإرهاب وامتناعها عن تزويد الحكومة العراقية بالسلاح، وهم قد وصفوا احتلالها بالـ"التحرير" ووقعوا اتفاقية استراتيجية معها ولا يخالفون أمراً لها فيأتيهم الجواب لأنكم شيعة وأمريكا وأسيادها الصهاينة يظنون بأن كل الشيعة معرضون لعدوى فكر المقاومة ورفض الهيمنة الغربية.
في النتيجة سينتصر المقاومون، وسيجلل العار كل من خذلهم، وستهلك كل حيتان أمريكا والصهاينة والرجعية العربية.
٢٩ كانون الثاني ٢٠١٤م