وبكل الاباء الذي يحمله، لم يستطع ان يخفي احباطه وتشاؤمه.. فهو يكتب لكن دون دعم واحتضان حقيقيين. مرة اخرى يتأكد لي ان العراق يأكل ابناءه.. رغم ان العراقيين من اكثر الشعوب تضحية وعطاءاً لشعوبهم واوطانهم.
في بلدان اخرى يختلف الناس.. ويتصارعون في السياسة والفلسفة والمعتقدات.. لكن بلدانهم تكرمهم، وتسمي باسمائهم المرافق العامة والمؤسسات والقاعات.. وتمنحهم شهادات مرموقة حقيقية وفخرية، ان كانوا من رجال الادب والفكر والدين والعلم والسياسة وممن قاتل دفاعاً عن الوطن، او قام باعمال انقاذ مشهودة او برع في مهنته.. وتُنشر منجزاتهم او مؤلفاتهم ولوحاتهم.. واحياء ذكراهم.. وتُمنح الجوائز الرمزية والمادية.. وتقيم لهم او حولهم مؤتمرات ومعارض وفعاليات.. ويصبحون اعضاء في مؤسسات لها حقوق خاصة او تمنحهم شارات صغيرة يضعونها على صدورهم.. تمنحهم امتيازات وتخفيضات في الكثير من الامور والشؤون.
هناك يتواصل المجتمع ولا ينقطع، فهو القاعدة القوية التي تقف عليها بقية الامور.. فهو بحاجة لمراكمة كافة منجزات ابناءه.. والحفاظ على رجالاته.. فلا عبث ولا تفريط او تمزيق لها.. بل رعاية واهتمام لانها المصدر والرافد لقوة كل ما عداها.. فالاختلاف هنا رحمة وغنى.. والتنوع هنا هو الذي يصنع الحياة ويجعلها متكاملة.. تسمح لملايين الازهار ان تتفتح.. ولملايين المخلوقات ان تتكاثر.. يغذي بعضها بعضاً. بسنن كونية واجتماعية صنعتها بدقة يد مبدعة جميلة. اما الصراعات السياسية فلها ساحتها وصراعاتها وتغيراتها.. فيصعد فيها من يصعد ويسقط من يسقط.. يلعنون بعض ويتنابزون.. لكنهم يعلمون انها ايام يتداولونها ويأتي غيرهم.. ورجال الدولة والسياسة تعلموا بعد ان استهلكوا انفسهم ايضاً، كيف يفصلون بين اهمية استمرارية المجتمع وتواصله ومراكمة منجزاته، وبين التحولات السياسية ومتغيراتها. ويعرفون جيداً انهم ان لم يكرموا غيرهم اليوم، فلن يكرمهم احدٌ غداً.