ولا أنسى وجه الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران وهو يشاهد الهدايا المقدمة له من الملك السعودي السابق فهد، إذ كادت عينا الرئيس الفرنسي تخرجان من محجريهما ولهاًً ويتدلى لسانه طمعاً، كما ويحرص الرؤوساء على اختيار هداياهم بعناية، لتترك أثراً طيباً في نفوس مضيفهم، وقد تلقى الرئيس ريجان عدة سروج لأنه كان مولعاً بركوب الخيل، ومثل دور الكاوبوي في افلام هوليوود من قبل.
أحياناً يقدم الرئيس الزائر هدايا لمضيفه وزوجته أيضاً، ولو استعرضنا قوائم الهدايا المقدمة للرؤساء الأمريكيين لتأكد لنا ذلك، وكل رئيس أمريكي ملزم قانوناً بتقديم قائمة بالهدايا المستلمة وتسليم الهدايا للخزانة الأمريكية، وقبل تشريع هذا القانون بقرون استن رسول الإسلام الأعظم قاعدة عدم جواز احتفاظ الوالي بما يهدي إليه إذ يروى عنه قوله: (أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته)، فهل إلتزم رؤوساء الدول العربية والإسلامية ومن يولونه بأمر رسولهم؟
أول حاكم جمهوري للعراق عبد الكريم قاسم، استحوذ على الحكم بالإنقلاب العسكري، ثم سرعان ما تخلص من رفاقه الإنقلابيين، وأشعل الفتن بين الأحزاب والناس، لينفرد بالحكم زعيماً أوحداً، كان يزار ولا يزور على الصعيد الدولي، يقال أنه أهدى صحفية لبنانية زارت العراق مجوهرات ووسام رفيع، وخطبها فتمنعت، هكذا تروي في مذكراتها، لكن المؤكد بأنه كان يهوى الوقوف خطيباً، فلا يترك مناسبة مهمة أو غير مهمة إلا وخطب فيها، لم يكن خطيباً مفوهاً بالتأكيد، وعادة ما كانت خطبه طويلة ومكررة ومملة وغير ذات قيمة، وأحياناً يثقل على زواره بإسماعهم تسجيلات لخطبه، هذا ما ذكره صحفي روسي، ويروي أحد رجال الدين بأن فريقاً من علماء الدين الشيعة زاره في مكتبه فأهدى كل واحد منهم صورة ممهورة بتوقيعه على غرار المشاهير من الفنانين، غادر السلطة كما اقتنصها بالقوة والدم المسفوك، وترك للعراق إرثاً أسوداً من الدكتاتورية والتسلط والتغيير من خلال العنف الدموي، تلك كانت هداياه المرعبة للعراقيين الذين يعانون منها الأمرين حتى اليوم.
عبد السلام عارف مثل سلفه قاسم عسكري محترف، أغرته السلطة فوثب على الحكم ثلاث مرت، الأولى مع قاسم والثانية للتخلص منه والثالثة ضد البعثيين، كان الرئيس المصري عبد الناصر مثاله الأعلى، زاره مرة حاملاً معه هدية، ليست مثل كل الهدايا، أقل ما يقال فيه أنها غير اعتيادية، وكنا نظن أن زمن مثل هذه الهدايا قد ولى وانقضى، قدم عارف الهدية لعبد الناصر، في علبة مغلفة، ولا بد أن عبد الناصر شكره عليها قبل أن يزيل الغلاف عنها، وكانت مفاجأة، لم تكن حلية ثمينة أو لوحة فنية، بل كان عضواً بشري، اصبع مبتور، تبين لعبد الناصر بأنه اصبع غريمه المغدور في ١٩٥٨ نوري السعيد، يقال بأن شعور عبد الناصر كان مزيجاً من الاشمئزاز والصدمة، وأمر بدفن الإصبع في مقبرة مصرية بمراسم مناسبة.
لولا عبد السلام عارف لما عرف العراقيون أخيه عبد الرحمن رئيساً، كان الرئيس الوسط، من قبله إثنان ومن بعده إثنان آخران، قبل أن يأتي الإحتلال، فشل في التسلط على البلاد وفي الاحتفاظ بالحكم، لولا خيبته وضعفه لما أبتلي العراق بالبعثيين، هو كان هدية أخيه لبلاد الرافدين، وهو أهدى العراقيين حكم البعث.
خلف أحمد البكر عارف الثاني، الأب القائد، هكذا سماه البعثيون، ولكنه لم يكن قائداً فعلياً بل مجرد قنطرة عبر عليها الحاكم الفعلي للعراق صدام حسين إلى سدة الرئاسة، لذلك يمكن القول بأن صدام حسين هو هدية البكر للعراقيين، فبأس الهدية ومصدرها.
في أواخر الستينات أو اوائل السبعينات عاد أحد اللبنانيين من العراق، وهو من عائلة لبنانية معروفة شغل عدد من أبنائها منصب رئاسة الوزراء، أثناء زيارته للعراق اجتمع بصدام حسين، وخرج من الاجتماع بهدية، كان فرحاً جداً بالهدية وهو يريها لأقاربه واصدقاءه، وكانت هدية صدام بندقية كلاشينكوف، ولكنه لم ينتفع بهدية صدام، وعندما صدر أمر إحضار بحقه من الأمن اللبناني اختبأ في شقة سيدة من أصدقاء عائلته.
بعد انفراده بالحكم استمر صدام حسين في إهداء زواره قطعاً من الأسلحة، فكان البعض منهم يخرج بمسدس وآخر ببندقية وهكذا، ومنهم ثلة من أقاربي البؤساء، فيما حصل أعوانه في الخارج على حقائب مليئة بالنقود وكوبونات النفط.
نتجاوز طالباني إلى رئيس الوزراء نوري المالكي، هو أيضاً حمل هدية إلى سيد البيت الأبيض، صينية من الفضة، لكن سجلات الهدايا للرئيس الأمريكي لا تذكر ما هو أهم واثمن بكثير من هذه الهدية المتواضعة، ألا وهي الاتفاقية الاستراتيجية التي وقعها المالكي بين حكومته وأمريكا، والتي اخضعت مصير ومستقبل العراق دولة وشعباً للإرادة الأمريكية ومخططاتها الخبيثة، وهي هدية المالكي وكل من وافق عليها لأمريكا.
حتى لا يفترض أحد بأني منحاز للنظام الملكي البائد اقول بأن لولا وهن ذلك النظام وسياساته غير الحكيمة لما تهاوى واضمحل خلال ساعات بإنقلاب عسكري لتحل محله الدكتاتوريات الجمهورية، وكما أن النظم والحكومات المتعاقبة هي نتاج فعل أو صمت العراقيين لذا كل قادة العراق وهداياهم المرعبة هي من صنع شعبه.