للإمارة أو الرئاسة قيمة اجتماعية عظمى لدى العرب، من قبل وبعد السقيفة، هي أحد أسباب فشل العرب في تأسيس ممالك مستقرة في الجاهلية، فالممالك الجاهلية نتاج تحالفات قبلية، أنشأتها بمشقة صعود جبل شاهق وانهارت بسرعة التدحرج منه، تلك ممالك الرمال العربية.
لو خلع عثمان بن عفان قميص الخلافة "المقدس" فهل كان الجمل سيبقى باركاً في المدينة المنورة؟ المؤكد أن معاوية بن أبي سفيان سيتعذر بغير قميص عثمان الملطخ بالدماء ليبرر عصيانه وهو القائل: ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، وقد أعرف أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون [ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، المصنف، كتاب الأمراء]
ذهب السفيانيون وجاء المروانيون، وأولهم مروان بن الحكم الذي أقر على نفسه بأنه "قتل الناس بالسيوف على الملك" [ ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء ١١، ص ٦٧٦].
تاريخ الأمويين والعباسيين في معظمه سجل صراعات على السلطة، وقد بلغ هوس الخلافة والإمارة بالبعض إلى قتل أقرب الناس إليهم، ويروى أن الخليفة العباسي الهادي قتل مخنوقاً بأمر والدته الخيزران، وتقاتل المأمون مع أخيه الأمين على الخلافة وانتهى الصراع بمقتل الأمين وهزيمة قواته التي ضمت بين صفوفها قطاع الطرق واللصوص من عياري وشطار بغداد، واستعان المنتصر بقادة العسكر الأتراك على قتل أبيه الخليفة المتوكل وجلس محله، وقتل المعتز المستعين، وكلهم من بني العباس.
نمر بسرعة على تاريخنا القديم وصفحاته الملطخة بالأحمر والأسود لنصل إلى الأمس القريب، في جزيرة العرب صراع مزمن بين عائلة أمرائها من آل الرشيد، وهو أحد اسباب هزيمتها أمام آل سعود، قتل الأمير بندر آل الرشيد عمه متعب، فانتقم منه أخ المغدور فأقدم على قتله ومعه معظم ابناءه، وليس من قبيل الصدفة البحتة أن تنتهي الدولة السعودية الثانية بعد خروج سعود بن فيصل على أخيه الحاكم عبد الله بن فيصل آل سعود، ومن أبشع فصول التاريخ الكويتي قتل مبارك لأخويه الشيخ محمد وجراح غيلة وغدراً ليستحوذ على المشيخة بمباركة بريطانية، حتى غدا انقلاب الاخ على أخيه أو الابن على أبيه من أجل الإمارة تقليداً ثابتاً بين حكام الخليج، وعلى سبيل المثال لا الحصر أزاح فيصل آل سعود أخيه سعود عن الملك وشيخ الإمارات زايد أخيه شخبوط، وكذلك فعل كل من سلطان عمان قابوس والقطري حمد بأبيه.
هوس الإمارة موجود بين العراقيين، لأنهم قبليون قبل أي شيء آخر، عندما اغتال أحد شيوخ العشائر في جنوب العراق أخاه طمعاً بالرئاسة برر فريق المزهرآل فرعون هذه الجريمة الشنعاء في كتابه القضاء العشائري واصفاً مقترفها بالطموح والشجاعة والرفعة: (ولكن هذا الرجل الذي قتل ابن عمه أو أخاه إذا أجلي فهو يحترم من مراحل جلائه للمنزلة الرفيعة التي كان يتمتع بها كما أنه ينظر لا بنظر المجرم العادي بل بنظر الرجل الطموح فتراه بين ظهراني القبيلة التي اتخذها مركزاً لسكناه من جلائه هذا إذا دخل عليهم أو حل في نواديهم يقومون له إجلالاً ويحترمونه احتراماً ما يحترم الرجل الشجاع لطموحه في الزعامة وحبه للسيطرة وشغفه بالنفوذ وإذا وجد رجل يتصف بهذه الصفات يجب أن يحترم فإنه إنما أقدم على القتل لا لأمر دنيء بل لأمر خطير بعيد عن الدناءة فيجب على القبيلة التي يحل بساحتها أن تحترمه) [ فريق المزهر آل فرعون. القضاء العشائري. بغداد: مطبعة النجاح، ١٩٤١، ص٦٢]
أيهما أسوء العراقي قاتل أخيه من اجل الإمارة والرئاسة أم قابيل الذي قتل اخاه لأن الله تقبل قربانه ولم يتقبل منه؟ كلاهما قاتلان وينطبق عليهما الحكم القرآني بأن من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فكإنما قتل الناس جميعاً، ومن قتل مؤمناً باء بغضب الله واستحق العذاب العظيم، لكن أعراف القبليين مناقضة لحكم الله، إذ يستحق قاتل أخيه على الرئاسة بينهم الاحترام والاجلال، وهو الدليل القاطع على هوسهم بالسلطة.
أجزم بأن عدد الأمراء والأميرات في الدول العربية اليوم أكبر من مجموعهم في بقية بلاد العالم قاطبة، والمقصود بالأمراء العرب هنا هم أعضاء العائلات الملكية أو من يساويهم في المكانة من سلاطين وشيوخ، والعدد في ازدياد كل يوم، إذ لا تمر نشرة أخبار حتى نسمع عن اختيار أو تعيين أو هلاك أمير في العراق وسورية ولبنان ومصر وتونس والجزائر، هؤلاء هم أمراء الجماعات الإرهابية، الذين أضفوا على أنفسهم هذا اللقب لأنهم مهووسون بالإمارة أيضاً، وقد بلغ بهم هذا الهوس تطرفاً غير مسبوق، ومن أجل الإمارة قتلوا أخوانهم في الدين وجيرانهم والنساء والأطفال، وتقاتلوا فيما بينهم عليها.
دواء العرب من هوس الإمارة في البراءة من القبلية ونبذ التسلط وتطبيق العدالة والمساواة وبناء مجتمع المعرفة.
١٤ اذار ٢٠١٤م
(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والاصلاح، ووسيلة كبرى وهي التعلم)