كم في بلدنا من عظماء مغمورين، ولكنك لن تجد عظماء قد هضم حقهم في بلدنا وغيبوا عن الفضائيات وتجاهلتم الصحف والمجلات كالمعقبين، ولو قدر لي أن أكرم أحداً في هذا البلد لم أجد خيراً من تكريم معقب مغمور، ولا أجد أجمل من تكريم المعقبين كلهم بإقامة نصب تذكاري في كل مدينة يسمى بنصب المعقب المجهول ، يصمم بشكل ملف علاقي أخضر يكون كبيراً جداً جداً لدرجة يحجب بها أشعة الشمس فيخلق الظلال التي يستظل تحتها المواطنون الذين أنهكتهم اجراءات المعاملات، ولو كنت وزيرا للتربية والتعليم لأمرت بتخصيص فصل كامل في منهج التربية الوطنية يتحدث عن دور المعقب في الوطن ، وفصل في مادة الفقه عن فضائل المعقبين وأحكام التعقيب ، ولخصصت فصولاً في الأدب تمدح المعقبين شعراً ونثراً، ولو كنت وزيرا للإعلام لصرفت الأموال في صناعة أفلام ومسلسلات ابطالها معقبون تحملوا الجهد والعناء من أجل انهاء معاملات الآخرين ورضوا بذلك بالقليل اليسير من الأموال ، أما لو كنت وزيراً للعمل لأمرت بإنشاء معاهد متخصصة في التعقيب تخرج لنا أجيالاً من المعقبين ،أجيالاً تنعلم على التضحية والصبر والجلد والثبات وشعارهم يظل دوماً رفعة ملف العلاقات الاخضر....
هذا القناعة لم تتشكل لدي إلا خلال الأيام القليلة الماضية ، فبعد أن تهرب المعقب المسؤول عن إنجاز معاملات المؤسسة وطال هروبه فأصبح لا يجيب على مكالمات الجوال ولا يكترث لرسائل الإستجداء المرسلة إليها، حينها قمت بدور المنقذ ووضربت كفي على صدري واعلنت استعدادي لخوض غمار عملية التعقيب وفي داخلي بأنها عملية سهلة لن تمر أيام معدودة حتى أنجز جميع المعاملات العالقة عن بكرة أبيها ، مضيت في مهمتي وطلبت من الموظف الإجراءات المطلوبة فسلمني ورقة صغيرة فيها ستة نقاط فحمدت الله ربي على سهولة وبساطة الإجراءات وشكرت في سري هذه الوزارة التي تسهل على المواطنين اجراءات معاملاتهم ، قمت من فوري لإنجاز إحدى هذه الطلبات وكانت عبارة عن ورقة من جهة أخرى لأكتشف بعد جهد جهيد بأن هذه الجهة لا تسلم للفرد هذه الورقة الخطيرة إلا بورقة خطية من الجهة التي تتطلبها !!!! وهكذا ببساطة تسري العملية التعقيبية تأتيك بالطلبات من حيث لاتعلم ومهما حاولت واجتهدت لأن تكون كل أوراقك كاملة فكن على ثقة بأن امراً ما مفاجئاً سيأتيك، وقد لا تجد إلا أن تنفجر بالضحك أمام ذلك الإنسان الذي ابتكر لك أمراً تعجز عنه العقول العظيمة فهل تصدق مثلاً بأن يشكك موظف ببطاقتك الشخصية ويدعي بأن الشخص بالصورة يختلف عن الشخص الذي أمامه ؟! أو يرجع لك الصور الشخصية بحجة أنها ذات خلفية سوداء والمطلوب خلفية بيضاء أو برتقالية ؟! أو يقوم مثلاً بتمزيق ورقة اعطاها لك موظف آخر ويطلب منك أن تحضر ذلك الموظف الذي أعطاك هذه الورقة ؟! أو يقول لك موظف وبكل سعة صدر بأن النظام قد تغير بقدرة قادر بتعميم صدر منذ يوم أمس !!!! أيام مضت وأنا في صراع لا يشابهه أي صراع ، فوضى وأنظمة ملخبطة واجتهادات صرفة ومهما فعلت ومهما اجتهدت يظل الآخرون يظنون بأنك مقصر ويكاد الكل يكذبك مما يسمعون ولا تستبعد أن يتغامز من في المؤسسة عليك بأنك لا تبذل كل طاقتك ، في عملية التعقيب تهاوت أمامي كل نظريات الإدارة وكل مناهج الجامعة ورأيت واقع مرير مؤلم لمعنى البيروقراطية.....
الدكتور
يوسف السعيدي