يصر بعض رؤساء العشائر السنية العراقية بان ما يحدث في العراق وسورية ثورة عشائرية، فيما يؤكد قادة في حزب البعث العراقي المنحل بأن ضباطاً كباراً في جيش الطاغية صدام المنحل يديرون المعارك مع الجيشين العراقي والسوري والقوات الكردية النظامية والشعبية، ولو صدقنا هذه التصريحات المتكررة لتوصلنا إلى نتيجة أن داعش ما هي إلا خدعة كبرى، ابتدعها البعثيون العراقيون وحواضنهم القبلية في شرق العراق وغرب سورية، والهدف منها عودة الأقلية السنية في العراق إلى سدة الحكم وانتزاع السيطرة في سورية من القيادة البعثية المنافسة.
توجد أدلة مساندة لفرضية كون داعش خدعة، وهنالك سوابق جديرة بالاهتمام، ففي الأعوام الأخيرة لنظام البعث البائد تبنى الطاغية صدام ما يسمى بالحملة الإيمانية، ومن يعرف الطاغية يدرك بأنه أبعد الناس عن الدين، بل كان عدواً لدوداً للمتدينين، مهما كان مذهبهم، ويرجح أن حملته الإيمانية المزعومة مجرد خدعة أراد بها تصبير العراقيين على شظف العيش الناتج عن حروبه المدمرة والمقاطعة الاقتصادية المفروضة على نظامه وكسب المزيد من الوقت لنظامه المتزعزع، وبعد سقوط النظام تزعم نائبه عزت الدوري حركة معارضة ذات صبغة دينية، وهي جيش الطريقة النقشبندية الصوفية، أي باختصار هم صوفيون محاربون بقيادة بعثية، وهذه التركيبة من المتناقضات أقنعت البعض بأنهم مجرد واجهة لإحياء حزب البعث المنحل، ولأن أهداف البعثيين غير كافية لإثارة الحماس وجذب الأنصار وضعوا لها عنواناً دينياً مغرياً، فلا نستغرب لو تبين أن داعش هي الأخرى واجهة دينية مزيفة، اصطنعها البعثيون وأخوتهم القبليون السنة في العراق وسورية، لتحقيق مآربهم في التسلط على الحكم بالقوة، ولأنهم أقلية ذات موارد بشرية ومادية محدودة، سعوا إلى إضفاء صبغة دينية على حركتهم، ولولا ذلك لما تبرع لهم الخليجيون بالأموال الطائلة ولما هرع للانضمام لصفوفهم ألاف المخدوعين بشعاراتهم الزائفة من الغرب والشرق، ولما تبارى الحمقى من العرب والمسلمين على قتل أنفسهم وأبرياء في عمليات انتحارية، وكلهم يعتقدون بأنهم ينصرون الإسلام ويساهمون في احياء دولة الخلافة.
ما بين شعارات داعش وأفعالها فجوة كبيرة، الشعارات إسلامية في الظاهر، ومنها بيعة خليفة ورفع راية إسلامية وإقامة الحدود ولباسهم الأفغاني (أو الخراساني على حد وصفهم)، ولكن أفعالهم أقرب إلى منهج البعثيين والقبليين البربرية، فلم تتحقق شروط بيعة صحيحة لخليفتهم المزعوم، وكونه قرشي كما يروجون غير كاف، وتغلب هذا الخليفة بالقوة والقهر لا يمنح حكمه شرعية دينية، فهو باغي أصلاً، ويبقى باغياً، وينطبق عليه الحديث النبوي الشريف: (من خرج على أمّتي، يضربُ بَرّها وفاجِرها، ولا يتحاشَ من مؤمِنِها، ولا يَفي لِذِي عهدٍ عهْدهُ ، فليس مني ولستُ منهُ) وبالفعل فهم ارتكبوا المجازر الرهيبة، وذبحوا مسلمين ومعاهدين آمنين، وسبوا نسائهم وأطفالهم، ونهبوا أموالهم، ومارسوا الفواحش، وهي كلها من السلوكيات القبلية المتوارثة من عصر الجاهلية السابق للإسلام، وحتى في المظهر خالفوا العقيدة السلفية، فارتدوا السراويل الفارسية، وهي بدعة منكرة في حكم السلفيين المتطرفين أمثالهم.
لو كانت داعش تنظيماً سلفياً يهدف إلى مد سيطرته على كل الشعوب الإسلامية فليس من المعقول أن تمد له بعض الدول الإقليمية يد المساعدة علناً وسراً، ويكفينا دليلاً على ذلك موقف الحكومة التركية من داعش، فهي رفضت الانضمام للجبهة المزعومة للحرب على داعش بزعامة أمريكا، ويتهمها البعض بدعم التنظيم بالأسلحة، والأتراك يقرون بمعالجة جرحى التنظيم الإرهابي في مستشفياتهم، ويشترون منه النفط والقمح المنهوب من أبار وصوامع العراقيين والسوريين، ولا ننسى بأن بعض قادة البعثيين والقبليين المتمردين العراقيين وجدوا ملاذاً آمناً ودعماً معنوياً قوياً في تركيا وحلفاء أمريكا الخليجيين والأردن، ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك في اتهامهم أمريكا باختلاق تنظيم داعش لنشر الفوضى في العالمين العربي والإسلامي، وكلها شواهد على كون داعش تنظيماً مصطنعاً، وصفته الدينية مزيفة.
فرضية كون داعش واجهة لبقايا البعثيين العراقيين وقبائلهم السنية العراقية وامتداداتها في سورية تجلي الكثير من الغموض حول أحداث الشهور الماضية، فقد توقف العراقيون وغيرهم محتارين أمام انهيار فرق عسكرية عراقية بأكملها أمام بضعة الاف من مقاتلي داعش، وحامت الشكوك حول ولاء كبار الضباط من قادة الفرق والألوية التي تركت مواقعها من دون قتال، مخلفة وراءها أسلحة وأعتدة ومعدات عسكرية حديثة، تبلغ أثمانها مئات الملايين من الدولارات، ولاذ هؤلاء الضباط بحمى كردستان أو قبائلهم، ومن المعرف أن حكومة الخيانة والهزيمة والعار التحاصصية في بغداد قد أعادت في السنوات المنصرمة أعداداً كبيرة من ضباط الجيش البعثي المنحل إلى مناصبهم، استجابة لضغوط أمريكية وخليجية وتركية، مما يرجح احتمال وجود اتفاق وتنسيق مسبق بين هؤلاء الضباط البعثيين الفارين من مواقعهم وقوات داعش البعثية، ولن استغرب لو تبين بأن هنالك أيدي أمريكية وراء هذا الانهيار الكبير والسريع للجيش العراقي، وبذلك يكون قد تحقق ما تريده أمريكا وحلفاؤها في المنطقة من تزويد البعثيين العراقيين السنة بأسلحة كافية ليشنوا حرباً بالنيابة على الشيعة بهدف إضعاف جبهة المقاومة والممانعة للهيمنة الأمريكية والاستسلام للصهاينة.
لو تبين أن داعش واجهة سلفية لمطامع بعثية وقبلية طائفية فلن تكون أول مرة استخدم فيها أفراد أو جماعات شعارات دينية لبلوغ أهداف دنيوية، ومن اشهر هؤلاء مسيلمة الكذاب الذي نجح في استقطاب الألاف من القبليين العرب الذين استماتوا دفاعاً عنه وعن ديانته المصطنعة، ولو صدقنا الروايات الكاذبة حول دور عبد الله بن سبأ (اليهودي ابن السوداء كما يصفه مؤرخو وفقهاء السنة) في اغتيال عثمان بن عثمان فسنستنتج بأن عدداً غير قليل من الصحابة والتابعين الذين انساقوا وراء خدعة ابن سبأ ناقصو العقل والدين، ومن بعد ذلك رفع معاوية بن أبي سفيان والي الشام العاصي والباغي قميص عثمان، مطالباً بثأره، وهومن قبل خذله ولم ينصره، وكل همه الاستيلاء على السلطة، ثم يسارع هو وأتباعه لرفع المصاحف خوفاً من الهزيمة النكراء فيطيعه أهل الشام وينخدع بتلك الحيلة الخوارج. وما أشبه داعش بالحركة الوهابية، كلاهما اتخذا الدين واجهة براقة، استمدا منه الشرعية لتكفير الغير وقتالهم وسلب أموالهم والتسلط عليهم، استخدم آل سعود دعوة محمد بن عبد الوهاب التكفيرية مطية لتحقيق أطماعهم في السيطرة على معظم جزيرة العرب، واليوم قادة البعثيين تستروا بالدعوة السلفية وإعادة إحياء الخلافة للتسلط على العراق من جديد، وكما أن الوهابية صنيعة المستعمرين فمن المستبعد نشوء ونمو داعش من دون دعم غربي خفي أو غض نظر على الأقل، ولعل الفرق الوحيد بين الحركتين هو أن القيادة في مملكة آل سعود موزعة بين مدنية بيد عائلة آل سعود ودينية يتوارثها أحفاد ابن عبد الوهاب، أما خليفة داعش فقد جمع بين السلطتين الدينية والدينية.
لماذا ينخدع الألاف بدعوة داعش المزيفة؟ يقول مثل دارج: هنالك أحمق يولد كل دقيقة، والصحيح أن الحماقة لا تورث ولا تولد مع الفرد، بل الفرد يكتسبها عندما يغلق عقله على الحقائق ويضع عنان نفسه بيد أهواءه، ويذكرني الحمقى المتحمسون لداعش والملقون بأنفسهم إلى التهلكة معها بذلك السوري الذي التقيته بمحض الصدفة أثناء فترة احتلال الطاغية صدام للكويت، وهومن عائلة حلواني التي أثرت من نشاطها التجاري في الخليج، قال لي بثقة مطلقة بأن جيش صدام وبعد احتلال دول الخليج سيتوجه شمالاً للسيطرة على تركيا ومن بعدها على قارة أوروبا، كان الرجل يرتدي ثوباً أبيضاً على عادة الخليجين في مكتبه بوسط دمشق، فلا غرابة لو صدق اتباع داعش بأنها ستقودهم لاستكمال ما أسموها أجدادهم فتوحات إسلامية وهي في الواقع غزوات بربرية يبرأ منها الإسلام الحقيقي، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
أتخيل قادة داعش ورعاتهم في أمريكا وتل أبيب ودول الخليج وهم يضحكون في سرهم من ضعاف العقول المتهافتين على الالتحاق بصفوف الإرهابيين والموت تحت رايتهم الباطلة، وما ينتظر هؤلاء الإرهابيين المخدوعين في الآخرة لأسوء من الموت الزؤام، فبدلاً من الجنة وحورها العين التي تعدهم داعش بها سيساقون إلى جهنم مع البعثيين الصداميين والتكفيريين السفاحين وغيرهم من أعداء الدين.
توجد أدلة مقنعة على أن داعش تنظيم بعثي قبلي، وهذا يفرض على الحكومة العراقية العاجزة وقواتها الخائبة تبني سياسات وإجراءات وقائية صارمة ضد بقايا البعثيين المندسين في الأجهزة الحكومية والمنبثين في المناطق المتبقية تحت سيطرة الحكومة وقواتها، والبدء فوراً بعملية شاملة لتطهير العراق من البعثيين كما تخلص الحلفاء من النازية الألمانية والوطنيون الفرنسيون من المتعاونين مع الاحتلال النازي.
(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والإصلاح ووسيلة كبرى هي التعلم)