والتصعيد المتواصل بين رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني من جهة ورئيس الوزراء نوري المالكي من جهة أخرى عزز ما ذهبنا اليه، ووسع باب التكهنات والاحتمالات والخيارات السلبية لما يمكن ان تؤول اليه الازمة العراقية من نتائج ومعطيات.
وبما ان ميدان الأزمة انتقل من الأروقة السياسية الخاصة الى وسائل الاعلام، ومن ثم باتت بعض المناطق المتنازع عليها، وتحديداً مدينة كركوك جزءا من ميدان الأزمة، فإن ذلك يعني انحسار فرص الحل، بل وربما ضياع فرص الحلحلة والاحتواء!.
وعندما تكون كركوك بكل حساسياتها القومية، وتراكماتها التاريخية، جزءا من ميدان الأزمة، فلا بد حينذاك من التعاطي بأكبر قدر من الجدية مع الموضوع، وعدم تركه خاضعاً لسجالات الإعلام والمنابر السياسية، لأن الخطورة الحقيقية تكمن في الانسياق وراء انفعالات اللحظة والمواقف المتسرعة وغير المدروسة بما فيه الكفاية، ولعل هذا ما حصل وما يحصل في هذه الايام.
والاتهامات المتبادلة بين البارزاني والمالكي تكفي للتدليل على ذلك، مضافا اليها ما يصرح به قيادات واعضاء من حزب الدعوة و"ائتلاف دولة القانون" وكذلك من الحزب الديمقراطي الكردستاني و"التحالف الوطني الكردستاني".
ما استفز الأكراد اكثر من اي شيء آخر، هو عقد مجلس الوزراء العراقي جلسة له في كركوك بعد ان كان مقرراً عقدها في مدينة الديوانية(٢٢٠ كم جنوب بغداد)، وهم اعتبروا هذه الخطوة بمثابة رسالة غير طيبة لهم من الحكومة الاتحادية في بغداد. وسبق عقد الجلسة تصريحات نارية لبعض نواب "دولة القانون" ضد البارزاني بالاسم، وتبعها انتقادات حادة ولاذعة جاءت على لسان رئيس الوزراء نوري المالكي نفسه خلال لقاء مطول أجرته معه قناة "العراقية" الفضائية شبه الرسمية الممولة من قبل الدولة مساء الاربعاء الماضي.
وتمحورت الحملة على الأكراد حول ديكتاتورية البارزاني، وتهريب النفط والتآمر والتجاوز على الدستور، قابلتها حملة مماثلة من أربيل ضد الرئيس المالكي والحكومة الاتحادية، تمحورت هي الاخرى حول ديكتاتورية الأخير واقصائه لشركائه والتنصل من الاتفاقيات المبرمة والتعهدات والالتزامات التي قطعها على نفسه.
وكانت كركوك في كل ذلك السجال الكلامي ـ الاعلامي الحادة حاضرة بقوة، وبينما يشدد المالكي على انها مدينة عراقية وهويتها وطنية، وانها بحكم تركيبتها الفسيفسائية تمثل عراقاً مصغراً، وحسم امرها يتحدد وفق السياقات الدستورية من خلال المادة ١٤٠، وليس عبر فرض الامر الواقع الذي يعمل عليه الاكراد، إذ يقول الاكراد ان عراقية كركوك لا يلغي هويتها الكردية، وان تحديد هويتها لا يتم باستقدام قوات خاصة ومروحيات.
وباستمرار تشير تقارير رسمية خاصة الى مظاهر وممارسات مختلفة من قبل سلطات اقليم كردستان في المناطق المتنازل عليها مثل كركوك وخانقين وكالار وغيرها، مثل استخدام اللغة الكردية في المدارس وإنزال العلم العراقي ورفع العلم الكردي بدلا عنه على المباني الحكومية وغير الحكومية، وكتابة اللوحات المختلفة باللغة الكردية، فضلا عن وجود التشكيلات العسكرية لقوات البيشمركة الكردية ومعها المقرات السياسية الكثيرة للاحزاب الكردية التي يتجاوز نشاطها البعد السياسي، ناهيك عن الضغوطات التي يتعرض لها ابناء القومتين العربية التركمانية من قبل جهات كردية متعددة في المناطق المتنازع عليها، والاكثر من ذلك ان الحكومة الاتحادية لاتمتلك اية سلطة في اقليم كردستان، والمالكي اعترف اكثر من مرة ـ واخرها في حديثه لقناة العراقية ـ انه لايستطيع نقل او تحريك شرطي واحد من او الى اقليم كردستان.
ولكن المظاهر والممارسات الكردية التي قد لا تكون مقبولة وفيها قدر غير قليل من الاستفزاز، غالبا ما تقابل أو تكون ردود افعال من قبل جهات عربية في كركوك وغيرها، وبعضها جهات حكومية. وكل ذلك سببه انعدام الثقة، وبقاء مخلفات وتراكمات الماضي مهيمنة ومسيطرة على تفكير كل طرف من الاطراف.
ولاجل اثبات الوجود، لم يكد المالكي يغادر كركوك حتى جاء اليها نائب رئيس حكومة اقليم كردستان عماد احمد، وبدا واضحا ان الاكراد ارادوا ان يطلقوا رسالة مفادها انهم موجودون على الارض بقوة.
وفي لقاء قناة "دبي "الفضائية معه اعتبر رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني الذي زار دولة الامارات العربية المتحدة مؤخراً بدعوة من رئيسها، ان ديكتاتورية المركز هي التي تهدد وحدة العراق، في اشارة الى سياسات وممارسات المالكي، وأن الاكراد ليسوا ضد تسليم الجيش العراقي، لكنهم ضد ثقافاته الخاطئة.
وتجدر الاشارة الى ان وسائل الاعلام تناقلت في الآونة الأخيرة معلومات مفادها ان رئيس الوزراء نوري المالكي هدد في اجتماع خاص لقادة عسكريين كبار في الجيش العراقي بأنه سيعرف كيف يتصرف مع الأكراد حينما يحصل على طائرات(اف ١٦)، وهو ما نفاه المالكي بشدة معتبراً أن الاكراد جزء من الشعب العراقي.
ولاشك ان التداعيات الخطيرة في العلاقات بين بغداد واربيل، تعني بوضوح استبعاد امكانية عقد اللقاء الوطني، او حتى في حال انعقاده استحالة تحقيق اية نتائج ايجابية منه، وتعني اتساع الهوة بين الفرقاء، واستفحال ازمة "انعدام الثقة"، وفتح الابواب بدرجة اكبر للتدخلات الخارجية، وهو ما يعني في النهاية غياب حقيقي لفرص الحل والانفراج، وحضور لامكانيات الصراع والصدام بمختلف اشكاله وصوره ومظاهره، والانزلاق نحو كركوك يعد المظهر الابرز والاوضح للتداعيات الخطيرة!.