هناك وبين سفح الجبل والوادي حلَ الهور والنخيل ضيفاً فتعانقا وتهامسا وبكى الجميع عندما سردوا حكايتهم التي سينحي لها التاريخ مُرغماً ويكتب الأجيال فصولها وحلقاتها بمداد الأسى والحزن والكمد، فبين الهور والوادي ثمّة حكاية أقرب منها للخيال من الحقيقة لكنّها محض حقيقة، فكلاهما ذاقَ طعم الظلم، وكلاهما نزف بحار من الدماء لأجل ترنيمة السماء (الحرّية)، وكلاهما دفع فاتورة الانتماء لهذا الوطن الجريح دماءً وجوعاً ودموعاً، وكلاهما قدم قرابين الأبرياء لأجل الخبز والثرى، وكلاهما أعطى اعز وكُلّ ما يملك من أبناء وأموال وأنفس كي يُزيح ذاك الكابوس الذي جثم كما تجثم القبور المرعبة على سفوح الأرض، وكلاهما خطَ وكتب بقلم العقل على لوح القلب أحلامه التي وأدت وجراحة التي نزفت ودمائه التي سفكت ودموعه التي ذرفت، وكلاهما حمل هموم وطنه حتى ترجمها رفضاً وإباءً وشموخاً وألف (لا) التي عانقت حتّى صراخ السماء.
فبيننا والكرد تاريخ طويل من العذابات والمعاناة، وبيننا قواسم مشتركة ونقاط قوة وهمٌ وألمٌ وأملٌ وتطلعٌ لغدٍ أكثر إشراقاً وأكثر نصاعة وأكثر حرّية، ومن يُريد أنّ يعمق هوة الخلاف السياسي ويصب النار على الزيت ويحدث ثغرات كي يخدم بها صراعه غير النزيه عليه أنّ يقنع بها من حوله ويصدر تلك الفكرة لنفسه ويخدع بها أقرانه وشركائه ويروجها بعيداً عن تلك العلاقة التي رسخت في ضمائر الآخرين مثل رسوخ نخيلنا في عمق أرض العراق، لأننا وبمنتهى الصراحة لسنا مستعدين للتفريط وتحت أيّ ظرف وعنوان ومسوغ ومبرّر بأخوة المصير والوجد والجرح والماضي الذي أشبعنا ألماً وظلماً وذلاً، فمن منا ينسى ذلك الماضي ويمحي عن ذاكرته تلك الصور البشعة والمرعبة التي مارسها (أخوتنا في الوطن) ضدنا وضد الجبل والوادي، هل ننسى؟ وجراحنا لم تبرأ بعد، هل ننسى ونحنُ مازلنا نحلم بالغد الذي لم يأتِ ونحنُ ننتظره، هل ننسى؟ وكيف ننسى؟، فمازال الجبل والوادي يذكر آلام الهور والانتفاضة الباسلة ومقابرها الجماعيّة وغياهب المعتقلات والسجون والزنزانات وصراخ التعذيب والقتل والتهجير وأحواض التيزاب وتصفية علمائه وذبح أبنائه، ومازال الهور يذكر كلّ آلام الوادي وكيف أحتضن أبنائه وهم يتساقطون حوله وهو لا يستطيع فعل شيء، مازال يذكر حلبجة والأنفال وعمليات التهجير وإراقة الدماء والتصفية وكلّ بشاعة الدكتاتورية والتوتاليتارية.
ما بيننا أكبر من أنّ تكتبه قواميس الأرض ولُغات السماء، ما بيننا جُرحاً نازفاً وعُشقاً طاهراً، وأفقاً ترنو له بصائرنا وبصيرتنا وننتظر أنّ نعانقه بشغف وبصدق، لم ولن تُجدي إفتراضيات ومعادلات الساسة في تشويه ارث تلك الصداقة التي كتبت فصولها منذ أنّ كنا ضحية القتلة والجزارين.
نقطة ضوء:
قد قضى أنّ يُوحدنا الجُرح وأن نلتقي على أشجانه.