الخوض في مجريات السياسة النفطية في العراق لا يمكن السيطرة التامة على كافة إبعاده لأ ن المؤثرات الخارجية والمعوقات تقف دون إمكانية رسم صورة متكاملة لهذه السياسة .فلقد خضعت السياسة النفطية في العراق منذ اكتشافه واعتماد الحكومات المتعاقبة على ريع هذا المورد بصورة أساسية وتأثيره المباشر على مجمل الأحداث السياسية والاجتماعية إلى عدة مؤثرات سياسية عالمية ومحلية لان العراق يختلف عن غيره من البلدان المنتجة والمصدرة للنفط خاصة دول الخليج كونه يمتلك موارد أخرى للدخل بالإضافة إلى النفط ,, ولم يكن العراق حتى الاريعينات من القرن الماضي يعتمد على النفط بصورة أساسية , بل كان جلّ اعتماده على الزراعة . لأنه يملك ثروة مائية عظيمة وأراض خصبة وشعب دؤوب مجتهد . إن الأولويات عندما تتعلق بالاقتصاد تؤثر في مساحة أوسع من المجتمع ..والحديث عن السياسة النفطية تعني الخوض في حالات التماس المباشر للاقتصاد , كون العراق أصبح ومنذ عدّة عقود يعتمد اعتمادا مباشرا على النفط ..ومن هنا يترتب عليه دراسة وبحث سبل ناجعة عن كيفية الاستفادة من هذا المورد المهم .. والعوامل الرئيسة التي يجب أخذها في إلا عتبار عند التفكير في كيفية التعامل مع العوائد النفطية هي التضخم , البطالة , والتنمية ,, والتنمية هي الأساس لدولة مثل العراق , يحتاج بعد كل هذه الحروب والدمار إلى بناء أسس سليمة ومتينة لاقتصاده المتردي , سيما وان الإنفاق الحكومي الهائل يتطلب توجيه جزء من العوائد النفطية للاستثمار في قطاعات أخرى مثل المشتقات النفطية والبتروكيميائيات وتمويل استثمارات في قطاعات صناديق التنمية المتخصصة محليا وعالميا ..إن الإنفاق غير المبرمج يؤدي دائما إلى التضخم والى فقدان كل امتيازات العائد النفطي الاقتصادية .ويشكل استثمار بعض العائدات ضمانا وعاملا مساعدا في ترسيخ قيم اقتصادية ثابتة , بما يحقق للعراق عوائد مستقرة تخفف من حدّة التقلبات في أسعار النفط وتأثيرها على أداء الاقتصاد العراقي ..إن لعوائد النفط سلبيات رغم ايجابياتها الكبيرة على الاقتصاد , وتتمثل سلبياتها في نقاط عدة منها ..أولا ,, زيادة الإنفاق الحكومي الذي سيؤدي إلى ازدياد معدل التضخم ومن ثم تدمير القدرة الشرائية الاستهلاكية للفرد والتي تزيد من معاناته ..ثانيا ,, زيادة مساهمة الحكومة في الناتج المحلي الإجمالي ,وعدم إشراك القطاع الخاص والفعاليات الاقتصادية غير النفطية وإلغاء دورها ....لذا فأن طرح جزء من عائدات النفط في استثمارات مضمونة الربح يجنب الدولة خطر الهزات الاقتصادية , الناتجة عن تذبذب الأسعار العالمية ,وعدم استقرار سوق العرض والطلب , وتأثر هذه السوق بالأحداث العالمية والسياسية .
كما يضمن هذا الاستثمار دخلا للدولة متوازنا يمكن بواسطته ترتيب أولويات الإنفاق على فترات أطول بحيث تكفل عدم ارتفاع الأسعار بشكل مفاجئ , ومن جانب آخر يكفل الاستثمار التوظيف الأمثل للموارد المالية والبشرية على حد سواء سيما أذا وظف جزء كبير منه في مشاريع منخفضة الخطورة , تكفل تدفق عوائد سنوية وعلى مدى بعيد , والانتفاع من هذه العوائد في تمويل النفقات الحكومية ..وهذا الاستثمار الأمثل سيجنب العراق الكثير من المخاطر الناتجة عن تقلبات الأسواق العالمية ويحقق أهدافا عدة منها استقرار معدل النمو ,, وكذلك السيطرة على معدلات التضخم وإبقائها تحت السيطرة وتبقى متناسبة مع الأسواق العالمية والهدف الآخر هو أشراك المساهمين من غير القطاعات النفطية .بدلا من إقصائها بعيدا عن العملية الاقتصادية ..
لقد أثبتت التجارب العالمية والإقليمية إن عائدات النفط وحدها لاتكفي لبناء ركائز اقتصادية متينة , سيما إذا كانت الدولة هي المسئولة الوحيدة عن تصريف هذه العائدات ..
لأن ذلك سيجعل من الدول النفطية دولا استهلاكية تعتمد بالدرجة الأولى على عائدات النفط , كما هو الحال في دول الخليج قبل أن تتدارك شؤونها , وكما هو العراق الآن ..وكلنا نعلم أن العراق قبل أن يكون بلدا نفطيا منتجا ومصدرا ,, كان يصدر المحاصيل الزراعية و بعض المواد الأخرى ,, كالشعير والتمور والجلود وقد استمر هذا الوضع إلى بدايات الخمسينيات من القرن الماضي , أي قبل أن تزداد واردات النفط وتعتمد الدولة عليه في نفقاتها , وتهمل باقي العوائد المتأتية من الضرائب والمكوس , وتعتمد على الاستيراد الاستهلاكي الذي أدى إلى إهمال الإنتاج المحلي وتعطيله ولقد أدت السياسات العسكرية الهوجاء منذ الستينات والى حد سقوط نظام الصنم في٩/٤/٢٠٠٣ إلى عدم الاستثمار الأمثل لهذا المورد الهام , بعد تورط هذه الحكومات بمشاكل سياسية داخلية وإقليمية ,أدت إلى تحويل هذا الوارد إلى أغراض بعيدة كلّ البعد عن التنمية والبناء ..وهدرت المليارات من أموال الشعب لأغراض شخصية ..ولتحقيق أحلام دونكشوتية مستحيلة ...ولقد تنبهت الدول الخليجية لهذه الظاهرة واستطاعت على مدى عقدين أن تبني قاعدة اقتصادية متينة , بنيت على أساس الاستثمار الجيد لبعض عائدات النفط ,واستطاعت وعلى مدى زمني قصير أن تحقق توازنا ملموسا بين العجز في ميزان المدفوعات والاحتياطي المالي ,, ظهر ذلك جليا من خلال الطفرة النوعية للتنمية والأعمار التي لم تحققها واردات النفط لوحدها .واستطاعت هذه الدول ان تحقق ريعا كبيرا يوازي بل يفوق واردات النفط .ولقد استطاعت هذه الدول ان تقفز قفزة نوعية , بحيث أصبحت من الدول التي لاتعتمد على واردات النفط فحسب , بل حصرت جل أهتماماتها في قضايا الاستثمار الأمثل للأموال والمشاريع الضخمة , ولقد فاقت اكبر الدول ذوات الاقتصاد المتين والموارد العالية في احتياطياتها المالية ..إن على الحكومة العراقية إن تسارع لإيجاد سبل استثمارية ,, وتعتمد على الخبرات الجادة الكفوءة العراقية والأجنبية في مجال المال والاقتصاد .وأن تفكر مليا للسنوات العشر القادمة ,وتجدّ في بناء مرتكزات اقتصادية مساعدة لواردات النفط ,,لان النفط كما نعلم مصدر طاقة قابل للنضوب والانتهاء ..إن السياسة الاستهلاكية الحالية والفوضى الضاربة إطنابها في كل مفاصل الحياة الاقتصادية وعدم إيجاد خطة ملموسة تخرج العراق من أزمته الاقتصادية الحالية ستؤدي إلى إفقار العراق وتدهور اقتصاده وسيظل يعتاش تحت رحمة البنك الدولي وشروطه الشيطانية , التي ستكبل الشعب قبل الحكومة بقيوده المذّلة التي يسعى دائما إلى فرض هيمنته على مقدرات البلدان المدينة له .لاننكر طبعا إن الحكومة الحالية قد ورثت مخلفات ثقيلة , منها الديون التي تراكمت على العراق جراء سياسة النظام السابق الهوجاء وتصرفاته التي أودت بالبلاد إلى الإفلاس . وحملت الشعب العراقي ديونا لاعلاقة له بها ولم يكن سببا في حصولها إلا أن ذلك لم يعف الحكومة من مسؤولياتها وضرورة قيامها بخطوات جديرة وجريئة لتصويب السياسة الاقتصادية المتعثرة والخروج من عنق الزجاجة ,,وأولى هذه الخطوات هو الابتعاد عن المصالح الذاتية والتكتلية والحزبية والعنصرية والطائفية ,,لان الاقتصاد العراقي الذي يعتمد على واردات النفط والذي ارتفع سعر برميله إلى مايقارب ١٠٠ دولار .. سيؤدي إلى ارتفاع إنفاق الدولة وبالتالي إلى زيادة التضخم وتسرب هذه الزيادة إلى منافذ غير ذي نفع ويكون مردود هذه الزيادة في أسعار النفط وبالا على المواطن العراقي بدل المؤمل منها ,وهو تخفيف معاناته ..إن ثمان سنين من الانتظار كافية لزرع اليأس في نفوس العراقيين وهم يرون أداء الدولة الاقتصادي المتعثر و يرون سياسة الإنفاق الحكومي التي اعتمدت على واردات النفط والاستيراد المفتوح الذي ألغى كل الناتج الوطني من صناعات وزراعة , وأصبحت أسواقنا مفتوحة بالكامل لمنتجات البلدان المجاورة وتركت الملايين دون عمل من عمال حرفيين ومزارعين وكفاءات جامعية .لذا فأن التفكير السريع والجاد في البدء باستثمار جزء من أموال النفط المورد الوحيد من قبل الدولة في المجال الزراعي والصناعي , على شكل مشاريع مختلطة اوعلى شكل قروض ميسرة لشركات وطنية وأفراد , وفرض قيود على الاستيراد وتشجيع الاستثمار الخارجي والدخول باسهم في إنشاء شركات تهتم بالمنتجات النفطية التي يستوردها العراق ويدفع ثمنها من واردات النفط
لقد حبا الله العراق بخيرات غير النفط لكنها لم تستغل الاستغلال الأمثل والاستثمار فيها يعتبر مضمون الأرباح , فالمياه الغزيرة والأراضي الخصبة والأيادي العاملة المدربة تعتبر خير ضمان للاستثمارفي هذا القطاع وكذلك القطاع السياحي كون العراق يعتبر من اكبر الدول التي تمتلك ثروة آثارية ومواقع دينية لكل الأديان والطوائف وفي مجال الصناعات التحويلية , والسوق العراقية تعتبر من أحسن الأسواق التي تستوعب نتاجات هذه الاستثمارات ..ومن المستحسن عدم اعتماد الدولة على جهازها التنفيذي ,فلقد اثبتت التجارب للحكومات السابقة فشل رأسمالية الدولة فشلا ذريعا , بسبب قلة الوعي لدى العاملين وتفشي الفساد الإداري وقلة الخبرات والكفاءات .إن السياسة النفطية بمجملها لاتعبرعن واقع العراق واحتياجاته لأنها سياسة انفاقية لاتعتمد على أسس مدروسة ستؤدي بالتالي إلى إفقاره وتجريده من كل مستلزماته الأساسية للتقدم , لأنها تعتمد الأسلوب الأسهل في الاعتماد على المؤسسات الحكومية التي اثبتت فشلها وتأخرها وعدم استطاعتها تدوير عجلة التقدم التي أصبحت تدور وبسرعة في بلدان كان العراق فيما مضى يقدم لها العون والمساعدة وهي لاتملك مانملك من احتياطي هائل للنفط وموارد أخرى وأخيرا نؤكد على عدم التذرع بحجج واهية كالوضع الأمني وما شابه ذلك لان الوضع الامني قد صنعته جهات معروفة وتستطيع الدولة احتواءه إن أرادت ذلك .....