الكثير من سياسيو المجتمعات الديمقراطية لم ينجوا من "هوسهم الداخلي" بعد خطوط حمراء اخترقوها وشبهات حامت حولهم....في المجتمعات الناهضة شرف المرء موثوق بلسانه وسلوكه ،وفي هذه المجتمعات حدود المرء لا تتقاطع مع حدود المواطنة .
المواطنة التي تعني سيادة القانون وتقاسم الثروات واحترام الاخر وتقود تلقائيا الى عهد شرف "مجتمعي" ...
والسياسي لا ينجو من هذه المعادلة بل مأسور بها اكثر من غيره.......
.... في آذار عام ١٩٩٢ وقف رئيس وزراء فرنسا "بير بيركيرفوا" امام البرلمان الفرنسي مخاطباً ( ساقف مع العدالة ضد الفساد المالي والمفسدين..... ) وماهي الا اشهر حتى تخيم غيمة الفساد عليه.....
تهمس الالسن الخفية : استخدم مسئولنا نفوذه ليحصل على قرض بلا ربح لشراء شقة في باريس..... ينساب الاعلام تدريجيا في زحمة الشبهات.... يجيب المسؤول تارة على سيل الاسئلة القاسية ويهرب تارة اخرى بحجة الالتزامات.... ويقول الكثيرون انه لم يهرب ابدا من مواجهة الاعلام والشبهات بقدر حاجته للجوء الى فضائه السري حيث يجد ضميره المهني و"المجتمعي" بانتظاره.....
المواطنة الحقة لا تحتاج الى محاكم الدولة لمحاسبة المفسدين...
المواطنة الحقة تغرس محكمتها في رأس كل مواطن محكمة المواطنة لا تسجن ولا تفرض غرامات ولا تساوم بل تسلخ الفرد سمة "المواطنة" لتجعله ممسوخا في مجتمعه.....
ينزوي رئيس الوزراء في ركن منعزل, مهمهماً في اعماقه :
كيف اواجه اولادي واحفادي بهذه الفضيحة ؟ واي تناقض بين خطابي امام ممثلي الشعب وفعلي المكشوف....لا تدوم المسائلة اكثر من سويعات حتى ينادي بعدها حارسه الشخصي طالبا مرافقته في رياضة مشي تعود عليها في احدى الحدائق الباريسية...
وهناك في خلوته, يلتمس سلاح مرافقه لينهي صراع الضمير" بطلقة....
قرر الحاكم "الضمير" ان لا وجود لك في مجتمع المواطنة...انت حر في عقابك لنفسك...
لا ولد يفخر بك, ولا صديق يسكن اليك, ولا زوجة تأكل من زادك......
لا نذكر ذلك تشجيعا لمن عبر الحدود والثوابت او عطلها من السياسيين كي ينتحر -نستغفر الله- ولا نتوقع ذلك منهم, ليس لعلمنا بتقواهم الذي لا يعلمه الا الله بل لما خبره الشعب عنهم من حب للمكاسب والامتيازات وبعد عن هموم من ولاهم امره .....
في سياسة العراق, تتشابك الحدود والثوابت لدرجة يضحى معها التجاوز سنة وعرفاً .... فكم عهد نكث, وميثاق لم ير الوفاء به نوراً الا عهد الصدود والتكبر على الشعب.....
لم تسفك شعوب العالم على "مواطنتها" من دماء كما سفكها شعبنا العراقي وسيل دمه في هذا المجال متواصل.......
ولم يبذخ سياسيو البلدان "المترفة" على انفسهم كما بذخ سياسيو العراق "الفقير" على مظاهرهم وحاجاتهم على الرغم من ثروات البلد الكبيرة...
اشترى العراقيون حريتهم بالدماء قبل المال, ووضعوا ممثليهم في مقاعد البرلمان متطلعين الى "مردود" يشفي من علَ جسده منهم ويشبع من جاعَ ويعلم من جهلَ ويريح من شقى وغيرها من الحاجات......
وكأننا في مسرح مشؤوم يتراشق على منصته " ممثلو السياسية" امام شعب مكلوم بقلبه يدفع فرجته دماً وتخلفاً......
ومن يدري.... فقد فهم ساسة العراق رسالتهم بالمقلوب : فبدل الرفاه نسعى الى الضيق, وبدل تعزيز العلم والمعارف لابد من التجهيل, وبدل الصحة فان العلة والمرض قدرٌ صالحٌ للعراقيين....
خرج العراق في عام ٢٠٠٣ من حقبة سوداء دامت ٣٥ عاما اتسمت بالحروب والقهر و تجلت ملامحها في نسب الفقر العالية والجهل والامية و نقص الامن والمؤن وغيرها
وفي عام ٢٠٠٣ بلغت ميزانية العراق حوالي ٦ مليار دولار
بعدها تدفق النفط في عروق الاقتصاد وتدفقت معه امال العراقيين متطلعة الى "مواطنة" طالما حلموا بها....
وفي عام ٢٠٠٦ تضاعفت ميزانية العراق ٦ مرات لتصل الى ٣٤ مليار دولار....
وفي العام ذاته, صحى العراقيون من حلم قصير يبدوا ان قدرهم لا يسمح بدوامه :
بلدهم يعد من اكثر البلاد تقدما في الفشل حسب رأي منظمة الشفافية العالمية المقارنة صعبة بين استخدام نفوذ للحصول على قرض بلا فائدة في بلد شعبه مترف وامتصاص المليارات في بلد شعبه نازف الدم حتى الهلاك........
في عام ٢٠١٢ لم نسمع للفساد تراجعاً, ولا للمحسوبية من توقف
وفي هذا العام, لم نسمع تراشقا او تبايناً في وجهات نظر حول منجزات او خدمات او مشاريع...
الصراع ليس حول شكل العمل او اهدافه ومنجزاته بل حول من يحكم, وما يتبع ذلك فالله اعلم......
كيف ندرك ان بناء البلد وبناء المواطنة تحديات لا يمكن الاستهانة بها وانها تتقدم على بناء الذات ؟
وكيف ندرك ان المسئولية عهدا وشرفا قبل ان تكون تميزا ووسيلة للثراء على حساب الام الناس وحاجاتهم ؟
واخيرا يحق للمرء ان يتساءل : في مجتمع مسلم كمجتمعنا تتعدد فيه القيم والثوابت والاعراف ..... كم من الحدود تم تجاوزها في هذا المجتمع ؟ وهل ذهب دم الحسين (ع) هدرا كي تتعطل الحدود الى هذا الحد ؟ كيف نحتفي بثورته ونتآمر عليها في الوقت نفسه ؟
و كم من الدماء والاموال يتوجب علينا الدفع كي نغرس "محكمة المواطنة" في راس كل ولي امر ؟؟؟؟