حدث ذلك في ولاية المالكي الأولى، فأكمل دورتها رغم عدة محاولات لإسقاطه من قبل جبهة الوفاق الوطني والقائمة العراقية والتحالف الكردستاني وكتل أخرى فيما عرف باجتماعات (دوكان وصلاح الدين)، وقد استقر رأي المجتمعين في حينها على عزل رئيس البرلمان محمود المشهداني تمهيداً لسحب الثقة من المالكي، فنجحوا مع المشهداني وفشلوا مع المالكي، بل أنهم أعادوا وزراءهم وتراجعوا عن مشروعهم، على أمل أن يمنعوا المالكي من دورة ثانية.
لكنّ محاولات كل الأطراف العراقية فشلت في منع المالكي من تولي رئاسة الحكومة الثانية، فتأجل تشكيل الحكومة قرابة ثمانية أشهر، ثم تراجعوا كلهم وجاءوا إلى المالكي يصوتون بالموافقة على حكومته، ويتسابقون للحصول على مكاسب ومصالح شخصية وفئوية.
وفي حكومته الثانية، جربت القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي كل الوسائل، فسحبت نوابها من البرلمان وقاطعت جلساته، وجالت على الدول العربية وغيرها، وعقدت الاتفاقات واللقاءات السرية مع الكتل الأخرى، لكنها تراجعت بعد ذلك، رافعة الراية البيضاء أمام المالكي الذي أصبح عقدة القائمة وكابوسها المرعب.
ووجدت القائمة العراقية في قضية طارق الهاشمي الهارب من القضاء فرصة لتأجيج الأجواء، وتحشيد الخصوم ضد المالكي في منازلة جديدة، ساعدها على ذلك دخول حكومة إقليم كردستان في صراع مكشوف مع المالكي، ثم انضمام التيار الصدري إلى جبهة المعارضة، حيث اتفقت هذه الجبهة على سحب الثقة من المالكي، باقتراح من السيد الطالباني في اجتماعات أربيل.
كانت هذه الأزمة بهذا التجمع الكبير، أخطر ما واجهه المالكي، وبات الحديث يدور عن البديل الذي يخلفه في السلطة. لكن هذه الضجة التي أربكت المشهد السياسي والوضع العام في البلاد، لم تصل حتى الآن، إلى موقف ثابت، فالرئيس الطالباني كان أول المتراجعين مفضلاً الابتعاد عن الأزمة ومجرياتها، ومتحملاً سخرية الشارع العراقي الذي صار يتحدث عن رئيس يهرب من الساحة عند اندلاع أزمة، ثم تبعه السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري وأشد الأطراف على المالكي، فقد بدأ يتراجع تدريجياً وبطريقة متذبذبة عن موقفه في سحب الثقة، وصارت كتلته البرلمانية أكثر الكتل غموضاً في مواقفها، مما يشير إلى انها تبحث عن طريقة تحفظ ماء الوجه في التراجع عن معارضة المالكي. أما القائمة العراقية والقوى الكردية فأنها تزعم بأنها ماضية في استجواب رئيس الوزراء وسحب الثقة منه، لكن المسار الذي تسلكه قد بدأ يتلكأ بعد أنّ هدد المالكي بكشف الملفات في حال استجوابه من قبل البرلمان.
من المؤكد أن استجواب المالكي سيكون كارثياً بالنسبة له، لأن خصومه يمتلكون من الملفات ما تدينه وتدين قائمته ووزرائه، لكن في المقابل سيكون الاستجواب كارثياً بالنسبة لهم أيضاً، فهو يمتلك مثل ما يمتلكون من ملفات الإدانة والتجريم والفساد. فهل يمضون في الاستجواب، فيسقطونه ثم يسقطون معه؟.. هذا هو السرّ الذي يجعل المالكي دائماً ينتصر على خصومه، وهو الذي يجعل خصومه يتراجعون عن قتاله في اللحظات الحاسمة، حيث يفضلون أن تلحق بهم هزيمة سياسية على موت سياسي يحرمهم مكاسب شخصية كبيرة، أما هو فيضع خياراً واحداً في معاركه، إنها الحرب الشاملة مع أعدائه وليحدث ما يحدث.
من المرجح أن يصار إلى إعتماد بنود الاتفاق الضمني بين القادة السياسيين، وهو التستر المتبادل على ملفات الإدانة والفساد، فيصمت هذا ليضمن صمت ذاك، ثم يطوي النسيان القضية حتى تمر الأزمة عليهم بسلام ، لقد اعتاد المواطن على ذلك، واعتاد زعماء الكتل على عدم الاكتراث بشؤون المواطن.