على حافة شتاء ٢٠٠٣، تهاوى الجار الخليجي المفيد والمشاكس صدام حسين مخلفا وراءه واقعا جديدا اكثر نفوراً من سلفه حسب وجهة النظر الخليجية : ظهور الدور الحاسم للأحزاب الشيعية في صنع مستقبل العراق وتنامي النفوذ الإيراني...
إزاء هذا الواقع لا تجد السياسة الخليجية افقا لعملها سوى احتواء الشتاء العراقي وجعله قارصا على أهله ومن آزرهم...ساسة العراق المتحرر من الاستبداد مقاطعون خليجيا الا من تصدى منهم لحركة التاريخ وعاكسها ..
هبت رياح "الربيع العربي "هذه المرة بعيداً عن الخليج وتحديدا من تونس التي بعثت عواصفها عابرة للموانع والحدود لتخيم في نهاية الامر على سماء الخليج...،وبين الشعب والحاكم اختارت المملكة العربية السعودية حسن ضيافة الحاكم وترقب انقشاع الأزمة .،،،،
سقط الحليف مبارك في ثورة لم تعرف المنطقة مثيلا لها من قبل ..
أطاحت جموع الثوار بالمزعج القذافي بعد نزاع دموي قاس ...
لم يثبت الحليف علي عبد الله صالح في موقعه على الرغم من محاولاته المستميتة في مقاومة رياح التغيير
بشار الاسد الخصم العنيد لم ينجو هو الاخر من عاصفة الربيع التي كبدت الشعب السوري خسائرا وانهارا من الدماء
رياح عاتية وأمواج متلاطمة لم يصمد البيت الخليجي طويلا امامها، فقد تحركت الجموع في السعودية والبحرين وغيرها تناغما مع ما يجري في المحيط ..،،
وللسعودية باع طويل في سياسة العصا والجزرة .. الجزرة هذه المرة لشعب المملكة، حيث يطل بيت المال على الناس بكرمه المفاجئ والعصا لشعب البحرين حيث يطل الجيش السعودي على جموع الثائرين المسالمة ببطشه....
حيرة كبرى ومتاهات في دوائر صنع القرار الخليجية خلفتها هذه الثورات و ظهرت تجلياتها في كم واسع من التناقضات ....
السعودية تستضيف زين العابدين بن علي في تحدي صريح لمشاعر الثوار....
قطر تقود حملة التغيير في مصر عبر قناة الجزيرة وفي ليبيا تساهم بكل ما لديها مع عزم وحزم في تعزيز حالة الثوار
السعودية وقطر تقودان جبهة التغيير في سوريا وتتصاعد وتيرة دعمهما للثوار ماديا وإعلاميا و"شعاراتيا" لدرجة دفعت احد مخضرمي السياسة العربية القول بانه عندما يستمع الى دفاع ملك السعودية عن تحرر الشعب السوري يخيل له وكأنه امام احد قادة حركات التحرير من رموز القرن الماضي ...
وفي البحرين، يدخل الجيش السعودي فاتحا وقامعا تحت شعار "درع الخليج" الذي اظهر كفاءته كدرع واق للحكام في مواجهة شعوبهم ....شعوب الخليج مقدر لها ان تعيش في رخاء المادة واسترخاء الحقوق والحرية في هذه المنطقة لا تتجاوز مساحة اختيار الملبس والمأكل والمنزه بلا رقيب او محاسب.....
وفي شان الخليج يجمع المراقبون على اهمية المنطقة من النواحي الاقتصادية والاستراتيجية التي تدفع قوى الغرب على الحفاظ على امنها وسلامة طرق تدفق الطاقة منها, الامر الذي يرسم صورة اخرى لربيع الخليج القادم الذي قد لا يكون دموياً كما هو الحال في بعض الأقطار... وقد لا تتهاوى فيه العروش كما تهاوت مقامات الحكام .،،ولكنه قد يكون ساخنا في ابعاده الاجتماعية والجغرافية والسياسية بهذه البلدان .
جغرافيا : لا تبقى المجتمعات متماسكة بتناقضاتها وصراع مكوناتها الداخلية كما هي عليه الان, ولنا في تجربة دول البلقان خير شاهد... التجزئة الجغرافية قد تكون قدرا لبعض دول الخليج ولكنها تطبخ على نار هادئة......
ومن الناحية الاجتماعية، فان رخاوة اللحمة الخليجية تكمن في طبيعة مجتمعاتها المتنوعة الاعراق والمذاهب والتي تتوارى فيها العدالة امام بريق الثراء ومظاهره ... اقلية ثرية حاكمة واكثرية فقيرة اصبحت "المواطنة" لديها حلماً تتوارثه الاجيال.......فقد وصلت نسبة مواطني دولة الامارات في عام ٢٠١٠ على سبيل المثال ١١،٧٤٪ من اجمالي سكان الدولة البالغ ٨،٢٦ مليون نسمة حسب احصائيات عام ٢٠١٠ وهو رقم خاضع للتغير حسب نوع المصدر وجهته.....
هيجان الأكثرية المهاجرة المتطلعة نحو حقوق أوسع في بلدان عملت بها وتكاثرت قد يقلب موازين الامور... ويخلق ربيعا على المقاس الخليجي.......
نقلد الغرب في لسانه وسلوكه وتجارته،،،، لماذا لا نتماثل معه في احترامه لحقوق الخلق ؟؟؟ هذا هو التساؤل الجوهري الذي سيكون مولداً لحراك لا يستطيع الغرب ان يقف أمامه محايداً ولا يمكن للأمم المتحدة ان تصبر طويلا أمام التباين الشاسع في حقوق البشر في هذه البقعة من الارض..،
في قوانين العالم المتمدن ، لا يبقى المهاجر مهاجراً الى مماته ، وفي تلك القوانين، يولد المرء في بلد هجرة أبويه مواطنا...
ولنا ان نتطلع الى التركيبة الاجتماعية لجيوش اوروبا او فرقها الرياضية او جامعاتها لنجد فيها طيفا واسعا من المذاهب والديانات والأقوام التي تعكس ثمرة عمليات الدمج التي مارستها تلك البلدان على مهاجريها وهي عمليات لا نقول عنها سهلة ولا ندعي انها لم تلد من المصاعب ما قسى وما صعب كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا وهولندا وغيرها من البلدان ولكنها في جميع الأحوال قدراً للبلدان المتطلعة نحو الحداثة وسيادة القانون.....
وسياسيا فان الأكثرية المهاجرة في بلدان الخليج قد تصنع مستقبله السياسي كما صنعت ماضيه وحاضره الاقتصاديين..
والأكثرية المهاجرة، اذا لم تهز العروش بربيع عربي، فإنها قد تضع ملوك وحكام الخليج في وضع مشابه لملوك الدولة العباسية في حقبتها الاخيرة...
الحكمة الخليجية لا ينبغي ان تكون أسيرة للقوة والكبرياء وحلم الثراء الخالد، فقد اثبتت الايام والشواهد بان خلود الأنظمة وثرائها من ضروب الهوس البشري القاتل....
الحكمة الخليجية ان نحرر القرار من سياسة الجزرة والعصا ونتجه نحو قراءة واقعية لحال العالم واتجاهاته ونستبق الاحداث في تحرير الطاقات المكبوتة والانفتاح نحو الاخر ... ولسنا في هذا الامر مارقين او مبتدعين، فقد رسم الخليفة الرابع علي (رض) منذ اربعة عشر قرنا خلت خارطة الطريق في عهده لوالي المسلمين على مصر مالك الأشتر: الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق ....