السبب الاول هو ان وتيرة الحراك في بلدان اخرى مثل تونس ومصر وليبيا واليمن ودول اخرى كانت اسرع، والسبب الثاني ان الامور في الاردن مازالت الى حد ما تحت السيطرة، والسبب الثالث، ان القوى المحركة للتفاعلات، وان اختلفت مسمياتها وعناوينها ربما تكون قد وجدت الظروف مواتية بدرجة اكبر في بعض البلدان منها في بلدان اخرى، والسبب الرابع ان الهامش الصغير من الحرية في الاردن يمكن ان يكون قد ساهم بمستوى معين في ارجاء جملة من الاستحقاقات السياسية، او بعبارة اخرى في عرقلة وصول رياح التغيير الى اجواء المملكة.
قد تبدو الامور لمن يلقي نظرة عابرة وسريعة على المشهد الاردني تسير على مايرام وان الاردن مازالت وستبقى محصنة من اية احداث ووقائع دراماتيكة يمكن ان تفضي الى انقلاب في موازين القوى وتصدع في البنى السياسية الحاكمة كما حصل في بلدان لاتختلف تجربتها ومناخاتها واجوائها السياسية عن تجربة الاردن ومناخاته واجوائه السياسية.
ولكن السؤال المنطقي والمعقول هو مالذي يمنع ويحول دون تكرار حدوث ماحصل في مصر او تونس في الاردن، وهما اللتان تتشابهان في الكثير من الجوانب السياسية والاقتصادية والامنية والثقافية معها.
ولعل اكثر القراءات والتحليلات السياسية الاستشرافية تشاؤما لم تكن تذهب الى امكانية او احتمال سقوط نظام زين العابدين بن علي ونظام حسني مبارك بتلك السرعة والدراماتيكية، ونفس الشيء بالنسبة لنظام العقيد معمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن.
واليوم تظهر قراءات مماثلة تستبعد تماما امكانية تصدع بعض الانظمة السياسية، مثل الانظمة الخليجية، لاسيما النظام الملكي في العربية السعودية، والنظام الملكي في الاردن، غير عابئة بتفاعلات بان وظهر جزء منها على السطح وبقي الجزء الاكبر كامنا تحته، دون الالتفات الى حقيقة مهمة للغاية، الا وهي ان البيئة السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية التي انتجت المنظومات السياسية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين هي ذاتها التي انتجب المنظومات الحاكمة في السعودية والاردن والبحرين والمغرب ومعظم الدول العربية الاخرى.
يخطيء من يتصور ان الاردن تعيش في المرحلة الراهنة بحالة من الطمأنينة والاستقرار والهدوء، وان مصداتها من القوة والمتانة بحيث يمكنها منع رياح الثورات العربية من اجتياح ارضها وسمائها.
القراءة المتأنية والموضوعية تؤكد ان الاردن هي الاكثر تأثرا بما جرى ويجري، واذا كانت مصر التي لاتبعد سوى مرمى حجر عن الاردن قد تجاوزت بعض المنعطفات الحرجة بخسائر واستحقاقات غير باهضة، واذا كانت سوريا التي لاتبعد هي الاخرى سوى مرمى حجر عن الاردن قد نجحت حتى الان في الحفاظ على تماسكها، فأن الاخيرة في حال اندلعت فيها شرارة "الثورة" ستواجه منعطفات حرجة وخطيرة يصعب تجاوزها، وان تجاوزت بعضا منها، فأنها ستجد نفسها عاجزة عن تجاوز البعض الاخر، وان فرص وامكانيات وعوامل الحفاظ على التماسك تبدو قليلة وهشة.
الاطراف التي لعبت الدور المحوري الاكبر في مايسمى بثورات الربيع العربي في عدة بلدان عربية، ونجحت في الحصول على مواطيء قدم مهمة في الحكم بعد ذلك، هي ذاتها التي تشكل ابرز عوامل القلق للسلطات الاردنية الحاكم، ويمكن للمتابع ان يلمس نبرة القلق في حديث الملك عبد الله الثاني لشبكة (CBS) الاميركية قبل بضعة ايام، ويمكن للمتابع ان يلمسها من خلال الحراك السياسي القائم في الساحة السياسية الاردنية، فموضوعة الانتخابات باتت من بين ابرز الاولويات، ويبدو واضحا حرص السلطات الحاكمة على اجرائها بأسرع وقت ممكن، الى جانب حرصها على مشاركة جبهة العمل الاسلامي التي تمثل جناح الاخوان المسلمين في الاردن في تلك الانتخابات.فصناع القرار السياسي الاردن يدركون ان مقاطعة جبهة العمل الاسلامي للانتخابات يعني احد امرين، اما ان لديها خيارا اخر جاهز للتعامل مع السلطات الحاكمة، او انها تبحث عن ذلك الخيار، وهي في كلتا الحالتين تشعر ان موقفها قوي انطلاقا من شعور الطرف الحاكم ان موقفه ضعيف، وكذلك انطلاقا من صعود نجم التيارات الاسلامية في اكثر من مكان.
ولعل المفارقة الملفتة ان نظام الحكم الاردني والمعارضة الاردنية كلاهما يتوقان لسقوط النظام السوري الحالي بأسرع وقت، وكل منهما ينظر الى الامر من زاويته الخاصة، دون ان يلتفت نظام الحكم الاردني الى حقيقة ان سقوط النظام السوري وصعود نجم التيار الاسلامي المتشدد يعني فيما يعنيه اكتمال حلقات اندلاع "الثورة" في الاردن، ناهيك عن ان استحقاقات الفوضى والاضطراب السياسي والامني في المشهد السوري لابد ان تلقي بكل ظلالها وثقلها على المشهد الاردني المهيء والمترقب.
ربما يتصور صناع القرار السياسي الاردني ومنظرو السياسات الاستراتيجية في عمان ان العلاقات والتحالفات السياسية والامنية بين الاردن واطراف دولية واقليمية مثل الولايات المتحدة الاميركية والكيان الصهيوني والاتحاد الاوربي والسعودية وقطر وتركيا من شأنها ان تحمي الاردن وتحصنه من رياح وعواصف الثورات والانتفاضات التغييرية. مثل هذا التصور يجانب الواقع الى حد كبير، لان علاقات الاردن وتحالفاته لاتختلف عن علاقات وتحالفات مصر وتونس في ظل انظمتهما السابقة، فضلا عن ذلك فأن اقوى الحلفاء قد يعجز في بعض الاحيان عن حماية وصيانة مصالحه وافراده، فكيف به ان يحمي مصالح وافراد حلفائه واصدقائه، وماحصل مؤخرا من هجمات على البعثات الدبلوماسية الاميركية في اكثر من بلد على خلفية الاساءة للنبي الاكرم محمد (ص) ابلغ دليل وبرهان على ذلك.
ولايجادل الكثيرون في ان نظام الحكم بعمان نجح خلال فترات ومراحل زمنية مختلفة في كبت قدر كبير من الاحتقانات السياسية في المشهد الاردني بهدوء وحكمة وبمقدار قليل من الخسائر والاستحقاقات، بيد ان بعض من اصحاب هذه الرؤية يقرون بأن المرحلة الحالية تختلف في جوانب كثيرة عن المراحل السابقة، ويرون ان بعضا مما كان ممكنا في السابق لم يعد كذلك الان.
ولاشك ان اكثر القراءات تفاؤلا لايمكن ان تقول بأن الاردن في هذا الوقت اكثر حصانة من مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، بل ربما العكس هو الصحيح.
وماينبغي التوقف عنده والالتفات اليه ان اندلاع شرارة "الثورة" في الاردن بعد ان راحت تهب عليها رياح الربيع العربي بهدوء نسبي سيرتب حقائق ومعطيات ونتائج اكثر خطورة من حقائق ومعطيات ونتائج "الثورات" السابقة، فكل الاطراف ستجد نفسها في خضم تفاعلات المشهد الاردني، ارادت ذلك ام ابت.