ليس بإمكان أي بلد من بلدان العالم المحافظة على إتزانه الطبيعي وطنيا، وسياسيا واجتماعيا وأمنيا واقتصاديا خاصة اذا تعرض للظروف المأساوية والسياسات الغاشمة المستبدة لفترات ما قبل سقوط السلطة السابقة، واشتداد الهجمة الارهابية والفوضى والاضطراب والخراب الذي أعقب عملية اسقاط تلك السلطة مثلما تعرض له العراق.
وليس بامكان أية قيادة أو حكومة تسيير الأمور أو انجاز المشاريع بصورة اعتيادية وفق تلك الظروف ووسط تلك الأزمات. وهذا ما يجعلنا نخفف وطأة اللوم ونبسط لهجة العتب مع القادة السياسيين العراقيين وهم يسيرون بالعملية السياسية خطوة خطوة وبتأنّ وتعثر في عبور أسلاك الرحلة الشائكة وتجاوز مطبات وعقبات أعداء التجربة الجديدة.
فوصولهم بالقافلة الى بر الامان لايتم الا بجعل العراق اولا ،ومصلحته فوق كل اعتبار . إذ لا يمكن تصور نظام ديمقراطي تعددي بدون شراكة وطنية خالصة بعيدة عن التهميش والاقصاء على ان لا يتم التغاضي عن حقوق ضحايا الحقبة السابقة والحقبة اللاحقة، أو السكوت عن الأعمال الاجرامية التي ارتكبها وما يزال يرتكبها أعداء التجربة الديمقراطية من المجرمين المدفوعين بعقد التسلط والاستحواذ أو المنفذين لأجندات أجنبية.
لقد أدرك العراقيون بعد سنين من الاحتراب والخراب والتناحر - معينين الهجمة الارهابية القادمة من خارج الحدود على أنفسهم ووطنهم- أدركوا حاجة الوطن الجريح الى مشروع واسع للمصالحة والحوار الوطني لمواجهة التحديات التي صممت على تدمير العراق شعبا ووطنا. وعرفوا من خلال تجارب طويلة ان أي حوار بين أطراف متعددة لا يمكن تحقيق أهدافه إلا بوجود أرضية مناسبة تحدد فيها القواسم المشتركة التي هي محل توافق ورضى الجميع ولو في الحد الأدنى على أقل التقديرات على ان يصحب ذلك تنازل كل طرف عن بعض مطاليبه وإلا فإن أجواء التزمت والتشنج والتشكيك وإساءة الظن والأحكام المسبقة والمواقف المتشددة لا تنتج إلا المزيد من التباعد ولا تؤدي إلا الى طرق مسدودة ومواقف أشد تشنجا وتباعدا.
أنه من الطبيعي ان يحدث سقوط السلطة السابقة زلزالا في كافة أركان الدولة العراقية التي نشأت وترعرعت على منهج القمع والتعسف ولمدة أربعة عقود سود من الحكم العسكري الدكتاتوري ونتيجة ذلك لا بد ان تنشأ كتل وحركات
وتتبلور مواقف بعضها مساند لعملية التغيير والبعض الآخر رافض ومشكك، وآخرون ساخطون ومناوئون لها. والآن وبعد مضي هذه الفترة الطويلة وما تخللها من أعمال قتل وخطف وتخريب وتهجير ودمار طالت جميع شرائح المجتمع وأتت على الكثير من بنى الدولة التحتية وبأمكر وأخبث وأخس الأساليب وأبشع وسائل الاجرام بعد كل هذا لا بد ان يعي الجميع ان كل ذلك لم يلحق الضرر الا بالعراق وأهله، وأنه لا يمكن عودة المعادلة السابقة خاصة وان الثمن الذي دفعته الجماهير المكدودة يدفعها الى التشبث بأسس دولة حرة تقوم على العدل والديمقراطية واطلاق الحريات كما ان الأساليب الاجرامية التي تبناها أتباع السلطة السابقة زادت النفوس نفورا وأسقطت كل رموز تلك السلطة ومؤيديها في نظر الجميع، وهذا بدوره أقنع كل أطراف العملية السياسية بشقيها المؤيد والمناهض وأوصلهم الى حقيقة مفادها ان عجلة التغيير لن ترجع الى الوراء وان المواقف المتباعدة لا تفرز سوى الاحتقان والفشل المستمر وان لا جدوى من استمرارها بعد هذا الفصل الدموي من تاريخ العراق ، فكان لزاما ان يهرع المخلصون- ممن تهمهم مصلحة العراق وشعبه الصابر- الى طاولة الحوار الأخوي البناء.
ولكي تحقق هذه الحوارات النتيجة المرجوة يتوجب على جميع الفرقاء الابتعاد عن النظرة الضيقة القائمة على تحقيق مصلحة آنية تصب في خدمة الكتلة أو الطائفة أو المنطقة والعشيرة ففي ذلك امتداد لثقافة الحزب الواحد التي أسست وتسببت في نشوء نظام المحاصصة والذي لم يستطع بناء العراق الجديد ومن هنا صار الإنتقال من مرحلة المحاصصة التي أثبتت إخفاقها الى مرحلة المصلحة الوطنية العليا على ان تتكثف جميع الجهود على ايجاد آليات جديدة للتخلص من كل المعوقات التي تعرقل تحقيق هذا المشروع الوطني.
ان فرقاء العملية السياسية أمام فرصة تأريخية للوصول بعملية التغيير الى بر الأمان بعدما توفرت أسباب اللقاء على مختلف الصعد وبعدما وصلت الأمور الى حافة المنعطف الحرج.. وبلغت القلوب الحناجر وليتذكروا ان الفرص تمر مرّ السحاب.