في العراق .. كنا نتخيّل أنّ ليلَ العراق ينجلي عند سقوط ومؤسساته القمعية العريضة ،ولم نضع في الحسبان أنّ سقوط صدام نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى جيدة ، حيث التعامل مع حقائق برزت على الساحة العراقية والإقليمية والدولية معاً . القليل منها لم يعرفها الشعب العراقي من خلال أجهزة النظام الصدامي ،كاتهام شيعة العراق بالولاء والتبعية لإيران ،سواءٌ في عهد الشاه أو في عهد الجمهورية الإسلامية ، غير أنّ الكثير منها لم يعرفه العراقيون من قبل وعلى هذه الصورة بكل ضراوتها وعنفوانها وآلامها !!
ونتيجة لذلك فإنّ الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب العراقي وقعت في وهم كبير حينما تمنـَّت أي يأتيها (شارون) يحكمها بدلاً من صدام ، حتى وكأنَّ صدام لم يكن هو الوجه الآخر لشارون العراقي !!
فئات من الشعب العراقي تردد في ضمائرها هذه الأيام مقولة : يا ليت صداماً يعود يوماً!!!
المقارنة لا تصح بين ما يحدث في العراق اليوم ،وبين ما كان يحدث بالأمس في (عراق صدام) !!
المقارنة التي تصح ينبغي أن تكون بين ما يحدث في العراق اليوم ،وبين ما يحدث في المنطقة اليوم .
العجيب الغريب نرى البعض يتحدث عن (انتفاضة عراقية) تشابه انتفاضة (ميدان التحرير) ،وكأنّ (موجة) من الانتفاضات في منطقة الشرق الأوسط هي المخرج من هذه الأزمة !!
ما حدث في العراق هو أنَّ الإدارة الأميركية عرفت جيداً من خلال الأخطاء التي وقعت إبّان انتفاضة آذار ١٩٩١ ، أنَّ الشعب العراقي شعب الثورات والانتفاضات والوثبات ،وأنّ عداوة الشعب العراقي لأنظمة الجور والاستبداد هي عداوة حقيقية تتخطى وبكل صفحاتها المسائل المتعلقة برداءة الأوضاع الاقتصادية من جراء (الحصارات) الاقتصادية المتعددة التي لم يكن هدفها غير تركيع هذا الشعب العظيم وإذلاله .
أجل .. إنّ عداوة العراقيين لصدام ونظامه هي عداوة يمكن لي أن أصفها هنا بأنها (عداوة مبادئ) أي ليست (عداوة مصالح) ،مثلما أن مودة البعثيين لصدام مودة مصالح ، لا مودة مبادئ!
فشعبٌ يحمل هذه الروح ،لابد للإدارة الأميركية من التفكير بقهره وإذلاله!!
الولايات المتحدة لا تعتمد أسلوب الاستعمار المباشر التقليدي، لكنَّ غزوها للعراق اقتضته ضرورات واضحة / دولية وإقليمية يرتبط بها مستقبل العراق السياسي ارتباطاً عضوياً ، فلولا الغزو لتمكنت الجماهير العراقية من الانقضاض على المؤسسة البعثية (مرة أخرى) لتحيلها إلى رُكام تسحقه أقدام أمهات الضحايا ،ولو بعد حين !!
جاء الغزو الأميركي للعراق ليمثـّل كسر لأنف المارد العراقي من أن ينشط من عقال ربطته فيه الإدارة الأميركية نفسها حينما أتت بالبعثيين إلى العراق في العام ١٩٦٨ ،وكيف لا وفي هذا الشعب جميع مقومات الوثبة المباركة كل حين !!
المؤسسة العسكرية التقليدية في مصر تحكم البلاد منذ العام ١٩٥٢ ،وحكـّام اليوم هم أبناء تلك المؤسسة العتيدة .
إنّ الذي يبدو لي هو أنّ الولايات المتحدة أرادت إسدال الستار على حكم العسكريتاريا المصرية ،وولادة حكم مدني اقتضته معطيات المرحلة الحالية في منطقة الصراع في الشرق الأوسط ،تمهيداً ارسم (خارطة طريق) فعّالة، يجني بسببها أصحاب المشاريع السياسية العملاقة في العالم أرباحاً هائلة ،ولم يكن ذلك في حسبان المواطن المصري البسيط، بما فيهم الناس الذين خرجوا للتظاهر السلمي في ميدان التحرير ،وفي المدن المصرية الأخرى .
إنّ بداية هذا (المسلسل المصري)كانت في ميدان التحرير ،لكن (طرف الخيط) بأيدي الإدارة الأمريكية فقط .
(المؤسسة العسكرية ) و (المؤسسة الدينية ) ،وهما من أدوات النظام الرسمي المصري ينبغي لهما الوقوف على الحياد من أجل إسقاط اعتبارهما في قادم الأيام !!
(الجامعة العربية) يجب أن تقف على الحياد هي الأخرى، فهي مؤسسة مصرية يتعامل رئيسها مع الحدث كمواطن مصري فقط !!
دعائم النظام المصري القديم يـُراد لها أن تنهار ،لتحل محلها دعائم جديدة ..
(الشعب المصري المنتفض) ليس من ضمن هذه الدعامة ؛بل هم هدف وغاية للنظام القادم ، بعد أن كانوا سبباً مباشراً لهذه الأحداث .
النظام المصري الحالي نجح إلى حد ما بتضليل الإدارة الأمريكية الغبية ،وذلك بتخويفها من هاجس إيران ودورها في مصر، كما كان صدام يضلل الإدارة من ولادة (ولاية فقيه عراقية) !!
الإدارة الأمريكية تصوّر نفسها أنها تتصارع مع إيران ،ولكن من داخل مصر هذه المرة !!
الشعب المصري سيدفع ثمناً باهضاً نتيجة لهذه الرؤية القاصرة ، فالشعب المصري مازال مغيّباً عن الحقائق .
الإدارة الأمريكية هي التي تمسك بطرف الخيط في مصر اليوم، كما في العراق اليوم !!!
(عمر سليمان) هو الوجه المقبول،والمقبول جداً لدى الولايات المتحدة ،ولدى إسرائيل أيضاً !!
لكن عمر سليمان هذا سيكون (جسراً) تعبر عليه الأحداث ،كما في حالة مجلس الحكم العراقي !!
قد تكون وظيفة عمر سليمان السياسية تشابه كثيراً وظيفة الحاكم المدني في العراق (بول برايمر) ،وقد تكون من أولى مهماته تأمين الحماية لانسحاب حسني مبارك (رئيس عصابات البلطكية) ،ولو أدى ذلك إلى إراقة دماء غزيرة بين حشود المتظاهرين الغاضبين !!
عمر سليمان في حديثه في يوم الخميس ٣ / ٢ حاول تحجيم هذه الانتفاضة ،من خلال نسبة هذا الرفض الجماهيري إلى مجموعة من الشباب (القاصرين) ،متحدثاً عن (أبوَّة) ممجوجة تثير الاشمئزاز !!
المنتفضون المصريون ،وضعوا حسني مبارك وعمر سليمان أمام الأمر الواقع ،فإما التغيير الجذري ،وإما الموت وإراقة الدماء ، فلو رجعوا إلى بيوتهم فإنه لا توجد ضمانات بعد التعرّض لهم من لدن الأجهزة القمعية .
الذي يُحدّث نفسه بجدوى (انتفاضة عراقية) بهذه المعطيات الحاضرة، إنما يقع في وهم ينم عن قراءة غير واقعية للمشهد السياسي في كلتا الساحتين العراقية والمصرية، لأننا نعتقد أنّ رداءة الأوضاع في العراق ؛إنما هي صناعة أمريكية فرضها علينا هذا (المقاول الخطير) ،فلا مناص لأبناء العراق جميعاً من التآزر والتواد والتراحم والتحابب فيما بينهم، مخرجاً أوحداً من هذه الأزمة المستديمة .