للاسف لم تكن هناك تهدئة حقيقية، ولم تفرز الازمة توجهات جادة للبحث عن حلول وسط، ومصطلح "سرقة الاضواء"، هو الاكثر تعبيرا وتوصيفا لصورة الواقع السياسي العام في البلاد، فمسيرة الاعوام العشرة الماضية اكدت واثبتت ان الازمات السياسية غالبا ما لاتجد طريقا الى الحل بل يكون طريقها الى الترحيل، والاخير يفضي الى التراكم، وهو مايولد المزيد من الاحتقان والتشدد والتزمت وانعدام الثقة بين الفرقاء.
وبما ان جبهة جديدة انفتحت امام الحكومة الاتحادية في بغداد، او بتعبير ادق، امام ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي، فأن الاكراد اثروا الترقب والمراقبة، وربما التحريض والتأليب على بغداد، من اجل تضييق الخناق على صانع القرار هناك وبالتالي اضعافه ومحاصرته.
فبعد فترة هدوء وصمت اصدر رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني بيانا عبر فيه عن موقفه من الاحداث الاخيرة التي شهدتها المحافظات الغربية والمطاليب التي طرحها المتظاهرون ، وتضمن البيان اتهامات وانتقادات للحكومة الاتحادية وتحميلها المسؤولية، اذ قال البارزاني "ان العراق يمر منذ مدة طويلة بأزمة كبيرة بسبب اهمال الخدمات للمواطنين واقصاء الشركاء وعدم تطبيق الدستور والاتفاقيات، مما ادى الى ردود افعال تعبر عن استياء الشعب العراقي بكافة مكوناته وعلمائه ومراجعه واحزابه وتنظيماته، وفي الوقت الذي كان من واجب الحكومة الاتحادية ان تبادر الى التعامل بعقلانية من اجل ايجاد الحلول، عملت على تفاقم الازمة بالتهميش والتهديد والاقصاء ما ادى الى مضاعفات خطيرة قد تؤدي الى عواقب وخيمة".
وعبر رئيس اقليم كردستان عن دعمه وتأييده التام لمطاليب المتظاهرين المشروعة مع تأكيده على ضرورة الحفاظ على سلمية الاحتجاجات وعدم اللجوء الى العنف".
وقد قوبل بيان البارزاني الذي رافقه تصريحات لوزير الخارجية التركي احمد داوود اوغلو عزا فيه التوترات والازمات في العراق الى "سياسة الحكومة الاقصائية لبعض الاطراف السياسية"، قوبل برد فعل عنيف من قبل رئاسة الوزراء، وذلك بأصدار بيان من المكتب الاعلامي قال فيه انه "في الوقت الذي تسير الامور الى الحلول والانفراج الذي يخدم مصالح جميع ابناء الشعب العراقي وينعكس ايجابا على امن واستقرار العراق نفاجأ بمواقف وتصريحات مضادة من جهات اقليمية ومن شخصيات سياسية عراقية، كالبيان الصادر من رئيس اقليم كردستان والتصريحات غير المسؤولة التي اطلقها وزير الخارجية التركي، التي تكشف عن رغبة بأعاقة الحوار بين مكونات الشعب العراقي واحياء الفتنة الطائفية البغيضة".
وفي سياق التصعيد اتهم نائب رئيس مجلس النواب والقيادي في حزب البارزاني (عارف طيفور) نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني بمحاولة خلق ازمة جديدة مع اقليم كردستان بعد فشله في التفاوض مع المتظاهرين في المحافظات الغربية، وقال طيفور ( ان الشهرستاني يسعى الى خلق ازمة جديدة مع اقليم كردستان من خلال اطلاق التهديدات ومقاضاة الشركات النفطية التي تعمل في الاقليم والمطالبة بتخفيض مخصصات الاقليم من الموازنة العامة الاتحاية ) ، مشيرا الى ( ان الشهرستاني فشل في التفاوض مع المتظاهرين ولم ينجح في امتصاص غضب الجماهير المعتصمة التي خرجت من مختلف المحافظات ) .
وتصعيد النبرة الكردية ضد الحكومة الاتحادية جاء متزامنا مع انسحاب ممثلي القائمة العراقية من اللجنة الخماسية المشكلة من التحالف الوطني والتحالف الكردستاني والعراقية لبحث مطاليب المتظاهرين وبالتالي احتواء الازمة الاخيرة.
والغريب ان انسحاب القائمة العراقية من اجتماعات اللجنة كان مفاجئا لمختلف الاوساط السياسية والشعبية، بأعتبار ان الحكومة اتخذت خطوات عملية وسريعة للتعاطي والتجاوب مع مطاليب المتظاهرين، ابرزها تشكيل لجنة برئاسة حسين الشهرستاني لتبويب وتفكيك تلك المطاليب وتنفيذ مايمكن تنفيذه بأسرع وقت واحالة المطاليب الاخرى للجهات المعنية لغرض تفعيلها، وبالفعل فأنه خلال فترة زمنية قصيرة تم اطلاق سراح اعداد غير قليلة من الموقوفين، واحالة ملفات الالاف من المشمولين بقانون المساءلة والعدالة الى هيئة التقاعد الوطنية لغرض تخصيص رواتب تقاعدية لهم، ورفع الحجز عن العقارات المملوكة للمشمولين بالقانون او ذويهم، فضلا عن قرار رئيس الوزراء اصدار عفو خاص عن المعتقلين المدانين بقضايا جنائية بشرط تنازل اصحاب الحق الخاص.
هذه الخطوات السريعة التي اعتبرتها بعض الاطراف السياسية تنازلات مبالغ فيها ومن شأنها ان تفتح الابواب لعودة البعثيين الملطخة اياديهم بدماء الابرياء في العهد السابق، وكذلك الارهابيين، لم تفلح في تهدئة وامتصاص غضب الشارع في المحافظات الغربية، ليس لان المتظاهرين لم يقتنعوا بمستوى الاستجابة لمطاليبهم، بل لان ممثلي المتظاهرين او من يدعون تمثيلهم راحوا يرفعون سقف المطاليب، ويمارسون سياسي لي الاذرع، ويتعاملون مع الحكومة من منطق القوة، بحيث ان بعض التجمعات الجماهيرية الاحتجاجية راحت ترفع شعار اسقاط الحكومة، كما حصل ذلك في محافظة الموصل، اذ صرح المتحدث بأسم المتظاهرين غانم العابد "ان متظاهري ساحة الاحرار في المدينة الغوا جميع مطالبهم السابقة للحكومة المركزية، كألغاء المادة ٤ ارهاب واطلاق سراح المعتقلين وغيرها، واكتفوا بمطلب واحد فقط هو اسقاط حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي".
محللون ومتابعون لتفاعلات الاحداث يرون ان رفع سقف المطاليب من قبل بعض الجهات والاشخاص يأتي في سياق المزايدات والتنافس الداخلي والسعي الى كسب المزيد من التأييد في انتخابات مجالس المحافظات المقبلة المزمع اجراؤها في العشرين من شهر نيسان-ابريل المقبل. هذا من جانب، ومن جانب اخر هناك اطرافا خارجية-وهي نفسها التي تضخ الاموال وتمول هذا الطرف او ذاك-تضغط بأتجاه عدم ايقاف التظاهرات، واكثر من ذلك ارباك الحكومة بمزيد من المطاليب، حتى وان كانت تعجيزية، اي بعبارة اخرى ان تلك الاطراف الخارجية لايروق لها احتواء الازمة، وهي تراهن على تطويق الحكومة بأزمات عديدة من مختلف الجهات لاضعافها وتجريدها من عناصر قوتها ومن ثم اسقاطها سواء عبر السياقات الدستورية او عبر الشارع.
وربما جاء بيان رئاسة اقليم كردستان حول الاحداث، وتصريحات وزير الخارجية التركي، وانسحاب القائمة العراقية من المفاوضات مع التحالف الوطني، في اطار خلط الاوراق بدلا من ترتيبها، في ذات الوقت فأن الجهات التي تمثل المتظاهرين لاتثق كثيرا بوعود الحكومة واجراءاتها، وترى انه حتى الاجراءات التي تم اتخاذها من قبل الاخيرة قام الاعلام الموجه بتهويلها وتضخيمها.
والتصريحات الاخيرة لـ ( مارتن كوبلر ) ممثل الامين العام للامم المتحدة في العراق من مدينة كركوك جاءت لتعزز الاتجاه نحو خلط الارواق بقوله "أن الامم المتحدة لاترى وجود نوايا حقيقة لتلبية بعض مطالب المتظاهرين"، مؤكدا "إن التظاهرات حق من حقوق العراقيين الدستورية للتعبير عن ارائهم بالصورة التي تؤمن لهم مطالبهم، وعلى الحكومة العراقية تلبيتها وأخذها على محمل الجد وأن تأخذ دورها في حل تلك القضايا". وكذلك تعليق وزراء القائمة العراقية حضورهم في اجتماعات مجلس الوزراء منذ ثلاثة اسابيع
كل ذلك، وربما غيره، يؤشر الى حقيقة ان الازمة-او الازمات-لم توضع حتى الان على سكة الحل الحقيقية، واذا كانت هناك نوايا وتوجهات جادة بأتجاه الحل من قبل بعض الاطراف فأنها لم تتبلور بالقدر الكافي في خضم الحراك الفوضوي الخطير، وانعدام الثقة بين من يفترض ان يكون الحل بأيديهم.
بقلم :مركز الدراسات والبحوث في مؤسسة وطنيون الاعلامية
التجزئة والتحليل
٢٨/١/٢٠١٣