ومن الطبيعي ان تسود وتهيمن اجواء التشاؤم على المشهد العام في البلاد، في خضم غياب الثقة وتبادل الاتهامات، واستمرار نزيف الدماء وازهاق الارواح، وتصاعد نبرة الخطاب الطائفي، واتساع نطاق حالة التشرذم في داخل مختلف القوى والمكونات.
تساؤلات واثارات
وفي خضم كل ذلك لابد ان تطرح التساؤلات التالية:
- لماذا التصعيد الامني الخطير في هذا الوقت بالذات؟
- هل لذلك التصعيد علاقة بأنتخابات مجالس المحافظات المقبلة؟
- هل لذلك التصعيد علاقة بمجمل التطورات والمستجدات في المشهد الاقليمي العام، لاسيما في سوريا؟
- هل من الممكن ان يؤدي التصعيد الى اسقاط الحكومة؟
- هل من الممكن ان يؤدي الى تشكيل اقليم سني، وبالتالي الذهاب نحو خيار التقسيم الذي بشر به نائب الرئيس الاميركي جو بايدن واخرين من الاميركان قبل عدة اعوام.
الرؤية للتداعيات الامنية الاخيرة
تناولت وسائل الاعلام العراقية المختلفة-المرئية والورقية والالكترونية-العمليات الارهابية التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد الثلاثاء الماضي من زوايا عديدة من بينها:
- استعرضت الادانات والاستنكارات الواسعة التي صدرت عن كبار الزعامات والقيادات السياسية الحكومية وغير الحكومية، بدءا برئيس الوزراء نوري المالكي، مرورا برئيس مجلس النواب اسامة النجيفي، ورئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي السيد عمار الحكيم، ونائب رئيس الجمهورية خضير الخزاعي، ورئاسة اقليم كردستان، وغيرها.
- وترافقت الادانات والاستنكارات مع تحديد مواضع الخلل والمسؤولية، وكل طرف نظر الى الامر من زاوية معينة،
*فالمالكي “حمل الخطب والهتافات التي تطلق في مواقع التظاهر بالمحافظات الغربية والشمالية من العراق مسؤولية التفجيرات، ودعا إلى تفعيل مذكرات الاعتقال الصادرة بحق عدد من منظمي المظاهرات.
وقال المالكي في بيانه “لم تكن صيحات وخطب المتطرفين في مواقع التظاهر إلا المحرك الأساسي للقتل والتخريب الذي يقف خلفه المشروع الإقليمي التدميري الذي لا يريد لهذه الحكومة الاستقرار ولا لهذا البلد البناء والإعمار، اي بعبارة اخرى ان المالكي حمل المكون السني –او جزءا منه- واطراف خارج مسؤولية العمليات الارهابية.
*اما اسامة النجيفي فقد اوعز في بيانه حدوث العمليات الارهابية الى ضعف اداء الاجهزة الامنية قائلا “نطالب الاجهزة الامنية بدور جدي اكبر تبرهن للشعب من خلاله قدرتها على معالجة الامور وحماية المواطنين الابرياء بدلا من حالة العجز والاخفاق التي باتت تتضح جليا كلما توالت الخروقات حتى وصلت الى قلب العاصمة بغداد والى داخل مؤسسات الدولة المهمة”.
وفي تصريحات اخرى حمل النجيفي بكل وضوح الحكومة ورئيسها المالكي مسؤولية مايحصل من تداعيات امنية خطيرة.
*رئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي السيد عمار الحكيم كان اكثر وضوحا هذه المرة في حديثه بالملتقى الثقافي الاسبوعي، عندما طرح جملة انتقادات ، اذ قال ” ان عدم اعلان القيادات الامنية عن اسباب الانفجارات التي لحقت بالعاصمة بغداد، يشعر المواطن بان دمه لا قيمة له لدى المسؤولين”.
وان عدم خروج اي مسؤول امني واعلان استقالته وتحمل مسؤولية ماجرى امس من انتهاك وسفك للدم العراقي يشعر المواطن ان دمه لا يهم المسؤولين من قبل المعنيين بالملف الامني.
وان”دولا عندما يحصل فيها اي خطأ يكشف عن تقصير مسؤول وخطئه يخرج القيادي الكبير ويعلن استقالته لكن في العراق لايوجد لدينا ثقافة من هذا النوع ولايوجد احد يتحمل مسؤولية هذه الجرائم”.
وانتقد الزيادة العددية والكمية لعناصر الجيش والشرطة حيث اصبح تعداد الجيش والشرطة اليوم مايقرب مليون و٣٠٠ الف عنصر وهذا يزيد عن اعداد القوات الامنية في اكثر البلدان سخونة فكيف ببلد مثل العراق؟”.
واكد السيد الحكيم “ان السيطرات ونقاط التفتيش لم تثبت نجاحها، فقط انها تعطل حركة المواطنين واعمالهم ، وان سياسية الزيادة العددية والسيطرات اصبحت غير مبررة من قبل المواطن وليس لها تأثير ايجابي، وان الاصرار على خطط امنية فاشلة وعدم الرغبة في تطويرها وتقديم خطط بديلة والاستمرار بعدم التركيز على الجهد الاستخباري والتشكيك بالاجندة الاجنبية لم يعد كافيا للحد من نزيف الدم”.
*وبالنسبة للتيار الصدري طالب القيادي فيه والنائب الاول لرئيس مجلس النواب”القوات الأمنية بتحمل مسؤوليتها المهنية والأخلاقية في حماية المواطنين وضرورة الاعتماد على خطط امنية جديدة تتناسب مع حجم التفجيرات التي شهدتها العاصمة بغداد بالاضافة الى تعزيز الجهد الاستخباري والاسراع بتغيير القيادات الامنية المقصرة.
وهذا الموقف وان بدا معتدلا رغم انه تضمن انتقادا لاداء المؤسسات الامنية الخاضعة لاشراف وتوجيه رئيس الوزراء، الا ان ماتحدث به زعيم التيار مقتدى الصدر كان حادا جدا حيال الحكومة وبالتحديد رئيسها المالكي.
*وبالنسبة للاكراد والقائمة العراقية برئاسة ايادة علاوي، فقد اعتبرت ان السبب وراء حصول العمليات الارهابية هو سياسة الاستفراد والتهميش والاقصاء المتبعة من قبل المالكي، الى جانب ضعف اداء الاجهزة الامنية واختراقها، وهو مايتحمله المالكي ايضا بأعتباره القائد العام للقوات المسلحة والمسؤول الاول والاخير عن الملف الامني.
ترابط الوقائع والاحداث
لاشك ان العمليات الارهابية التي شهدتها العاصمة بغداد ومدن اخرى يوم الثلاثاء الماضي، الموافق ٢٠-٣-٢٠١٣، وكذلك عملية اقتحام وزارة العدل قبل ذلك التأريخ بأربعة ايام، لايمكن ان تنفصل عما يجري من وقائع واحداث في الساحة العراقية، وخصوصا في المحافظات الغربية من تظاهرات واعتصامات، بدأت بمطاليب تتمثل بأطلاق سراح السجناء والسجينات، والغاء قانون المساءلة والعدالة، ومنح رواتب تقاعدية للمشمولين بالقانون، الى اسقاط الحكومة والغاء الدستور، ورفع الكثير من الشعارات والخطابات الطائفية والتهديد بالزحف الى بغداد لتحريرها، اضافة الى ان رجال دين وشيوخ عشائر اعتلوا منصات التظاهر هددوا وتوعدوا بالتفجيرات.
وهنا لابد من الاشارة الى جملة مؤشرات ومعطيات:
١-انتقال التصعيد من مرحلة القول الى الفعل، ومحاولة احداث انفجار شعبي وسياسي كبير.
٢-المطالبات بأسقاط الحكومة والغاء الدستور يعني خروج المطاليب من اطارها الواقعي المقبول الى اطار مرفوض وخطير، ويمثل انعكاسا لارادات واجندات لاطراف خارجية اقليمية.
٣-الدفع بأتجاه فرض الامر الواقع في مسألة تشكيل اقليم سني على غرار الاقليم الكردي.
٤-الدفع بأتجاه تأجيل انتخابات مجالس المحافظات، وهذا في حال تحقق يعني انتصارا كبيرا ومهما لقوى الارهاب المعادية للعملية السياسية الديمقراطية وانكسارا وهزيمة للحكومة وللقوى الوطنية.
البعد الطائفي الخطير
ولعل البعد الطائفي اخذ يتنامى اكثر واكثر، من خلال الخطابات والسلوكيات والممارسات، ومن دلائله ومعطياته:
١-رفع الكثير من الشعارات التي تهاجم ايران، واستخدام مفردات من قبيل الصفويين والفرس والعجم واتباع ايران وما الى ذلك، وطرح خطابات تمجد بالاتراك والدولة العثمانية، وتحذر العرب من الخطر الشيعي –الايراني، وتنصح الغرب بأن يتعامل مع السنة اذا اراد ان يضمن مصالحه في العراق والمنطقة.
٢-ان العمليات الارهابية التي حصلت مؤخرا استهدفت مناطق شيعية بالكامل، في ذات الوقت فأن الاستهداف في بعض المدن والمناطق السنية اقتصر على استهداف بعض المرشحين لانتخابات مجالس المحافظات وتهديد منتسبي مفوضية الانتخابات من اجل افشال عملية اجراء الانتخابات في تلك المناطق.
٣-القائمة العراقية التي تمثل المكون السني اتخذت اجراءات سياسية تناغما مع التظاهرات، مثل انسحاب وزرائها من الحكومة على امل شلها وتعطيلها، والتحرك مجددا بأتجاه بعض القوى الاخرى لتفعيل مسعى سحب الثقة من حكومة المالكي.
هل نجح المالكي في تفكيك خصومه؟
وفي خضم الاوضاع المرتبكة جدا يطرح البعض التساؤل التالي .. هل نجح المالكي في تفكيك وتشتتيت خصومه؟.. نفس هذا البعض يجيب على هذا التساؤل بالقول اذا لم يكن المالكي قد نجح في ذلك فأن مسارات الامور تتجه الى ذلك، ومن بين المؤشرات في هذا الاتجاه:
-برزو خلافات بين جماعات وقيادات المتظاهرين وقد طفت على السطح في الجمعة الماضية، بين فريق يدعو الى التهدئة والاستفادة من الاستجابة للحكومية لبعض المطاليب، وهذا الفريق ربما يكون مرتبطا بالحكومة او بالجهات والشخصيات السنية التي تواصلت مع المالكي مثل صالح المطلك وجمال الكربولي وماجد حاتم السليمان وحميد الهايس واخرين، وفريق اخر يصر على استمرار التظاهرات حتى اسقاط الحكومة، ومن ابرز دعاة هذا الاتجاه علي حاتم السليمان والمتحدث بأسم المتظاهرين سعيد اللافي.
-الاعلان عن تشكيل ابناء العراق، وقد اعلن القائمين عليه بكل صراحة ان هذا التشكيل مدعوم من قبل رئيس الوزراء ووزير الدفاع، وهو في الواقع ميليشيا عشائرية تشكلت بضوء اخضر او بقرار حكومي للتصدي للطرف الاخر.
-اعلان احد قيادات المتظاهرين بأن الجمعة المقبلة ستكون اخر جمعة للتظاهر، وانه لابد ان تحسم الامور خلال الايام القليلة المقبلة.
-اعلان قطر بأنها لاتدعم جيش النصرة في سوريا ولا المتظاهرين في العراق.
-الاوضاع في سوريا التي تعول بعض القيادات السنية على حسمها لصالح المعارضة هناك، تمتاز بقدر كبير من الارتباك وهي لاتتجه لصالح المعارضة في ظل الاختلافات والتقاطعات الحادة بين صفوفها، والتي كان من بين افرازاتها استقالة رئيس الائتلاف المعارض معاذ الخطيب، ورفض بعض القوى تعيين غسان هاتو ذي الاصول الكردية رئيسا للحكومة السورية المؤقتة في المنفى، وتعرض قائد الجيش السوري الحر العقيد رياض الاسعد لمحاولة اغتيال، ناهيك عن التقاطع بين السعودية من جهة وتركيا وقطر من جهة بخصوص الاخوان المسلمين ودورهم في حاضر ومستقبل النظام السوري في حال رحيل نظام الاسد.
ولكن هل يعني تراجع التظاهرات او توقفها مؤشرا على انتهاء الازمة وانتصار نوري المالكي، وطوي صفحة المشاريع والاجندات الساعية الى اسقاط الحكومة وافشال العملية السياسية وتشكيل الاقليم السني؟.
بالطبع لا.. لانه من غير المعقول ولا المنطقي توقع ان تكون التظاهرات العامل الحاسم لترجيح كفة الصراع بين المكون السني والحكومة الشيعية كما يصفها البعض. انتهاء التظاهرات يمكن ان يبدو انتصارا للمالكي، ولكن اذا كان موجهو التظاهرات والداعمين والمخططين لها لديهم خيارات متعددة للتحرك والتأثير، فهذا يعني استمرار الامور على حالها ان لم تزداد سوءا، وخصوصا ان احد ابرز الخيارات هو اللجوء الى العمليات الارهابية، وفي هذا الوقت تتزايد التوقعات بحصول المزيد من العمليات الارهابية ارتباطا بجملة عوامل وحقائق داخلية وخارجية:
١-قرب حلول موعد الانتخابات، واتساع نطاق الاحتقانات الداخلية.
٢- عدم جدية الحكومة بتلبية مطاليب المتظاهرين المشروعة.
٣-استخدام رئيس الوزراء منهج تفكيك وتشتيت المكون السني من خلال تقريب طرف او اطرافها واستخدامها لضرب اطراف اخرى، وهذا المنهج يمكن ان يأتي بالنتائج المرجوة على الصعيد الاني-المرحلي، لكنه على المدى المتوسط والبعيد سوف تكون له نتائج سلبية جدا.
٤-بقاء الخلافات بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان على حالها، فضلا عن بروز الخلافات والاختلافات بدرجة اكبر بين ائتلاف دولة القانون والتيار الصدري.
٥-عدم حصول اية تغييرات في السياقات والخطط والقيادات الامنية والعسكرية، وعدم اجراء مراجعات حقيقية يتم من خلالها تشخيص الاخطاء والسلبيات والهفوات لمعالجتها بصورة جادة.
٦-بقاء الازمات والاحتقانات على حالها بين الحكومة العراقية واطراف اقليمية مثل تركيا والسعودية وقطر، وهي من بين اكثر الاطراف تأثيرا في المشهد العراقي.
٧-وبما ان الاوضاع والظروف الاقليمية تؤثر على الوضع العراقي، فأن تأزم الوضع اللبناني بعد استقالة حكومة نجيب ميقاتي، وارتباط ذلك بأحداث الساحة السورية يمكن ان يؤثر –وان كان بصورة غير مباشرة-على الوضع العراقي، وكذلك فأن ازدياد حدة التشنج والتصعيد بين ايران واسرائيل، وخصوصا بعد تهديدا قائد الثورة الاسلامية السيد علي الخامنئي بتدمير تل ابيب وحيفا في حال هاجمت اسرائيل ايران.
٨-الانتقادات الضمنية التي وجهها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في زيارته الاولى الى العراق للحكومة العراقية، والتي قال فيها “على اصدقائنا العراقيين معرفة أن الديمقراطية تعني شمولية المشاركة والاجماع وأن الذين يشعرون بالغضب يجب أن لا يتخلوا عن النظام أو أن ينسحبوا منه “، مشددًا على أن “نجاح التجربة الديمقراطية يتم بتوحد العراقيين”، وبحسب بعض التسريبات فأن كيري وجه للمالكي نقدا ولوما مباشرا بسبب سياساته التي وصفها بأنها تهدد التجربة الديمقراطية التي عملت الولايات المتحدة على ايجادها وتثبيتها في العراق بعد زوال نظام صدام.
اين يكمن الحل؟
ولعل مجمل القراءات والمعطيات التي اشرنا اليها تذهب الى ان الازمة-او الازمات-ان لم تكن سائرة الى التصعيد فأن فرص حلها ومعالجتها تبدو ضئيلة جدا ان لم تكن معدومة، وان احتمالات حصول المزيد من التداعيات الامنية واردة جدا، لاسيما مع بقاء الهوة كبيرة بين الفرقاء، وازدياد حمى الدعايات الانتخابية خلال الاسابيع القلائل التي تسبق موعد الانتخابات.
ولعل مفتاح الحل يتمثل في عقد لقاء وطني موسع تشارك فيه القيادات السياسية الكبرى من مختلف الاتجاهات، وتسبقه تعهدات بتقديم تنازلات متبادلة، والتزام بما تم الاتفاق عليه سابقا، والاحتكام الى الدستور، وتفكيك الملفات والقضايا الخلافية، ومعالجة كل واحدة منها بحسب الظروف المحيطة بها.
قد يبدو هذا المدخل-او المفتاح-للحل صعبا الى حد كبيرا، ولكن لابديل عنه، فالمالكي ليس من مصلحته الاستمرار بأقصاء وتهميش شركائه والتصرف بطريقة انفرادية، خصوصا مع ازدياد وتعدد الازمات وجبهات الصراع من الداخل ومن الخارج، ولابد ان يبدأ من التحالف الوطني الذي لم يعد له اي دور حقيقي، علما انه كان كذلك منذ البداية، فعبور الازمة يقتضي ترتيب البيت الداخلي الشيعي من خلال مكوناته الرئيسية الثلاثة –المجلس الاعلى وحزب الدعوة والتيار الصدري- مع اشراك القوى الاخرى كحزب الفضيلة وتيار الاصلاح الوطني وكتائب حزب الله وحركة اهل الحق، ومتى ماتفاهم الشركاء الشيعة فيما بينهم وتأسست الثقة ببعضهم البعض فأنهم سيكونوا قادرين على التفاهم بمقدار معين مع الاخرين، ولان الجميع منشغل حاليا بالانتخابات، فأن اي تحرك حقيقي سيكون بعدها، حيث ان نتائجها ستساهم في تحديد بعض مسارات الحركة للاطراف الرئيسية في الجانبين الشيعي والسني على السواء.
قسم الدراسات والبحوث في مؤسسة وطنيون الاعلامية