تسأولات في خفايا الاحداث
كما أشرنا سلفا إن تركيا اردوغان, تمتلك من أدوات الغلبة والتمكين على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري ما يجعلها دولة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام, لا من قبل القوى الغربية ولا القوى الإقليمية, , وبما اننا نتكلم عن محور دولي مفصلي يرتبط بقاعدة مفصلية غربية, فأن تلك المنعطفات تفرض جملة تساؤلات من بينها:
* لماذا انطلقت المظاهرات التركية في توقيتات حرجة, حيث إن المنطقة الإقليمية تغلي فوق صفيح ساخن من الإحداث؟.
* هل إن مظاهرات ميدان تقسيم, فعل داخلي شعبي ,ام ورقة قادمة من خارج الحدود التركية؟.
* إلى أين تتجه بوصلة حراك المظاهرات؟.
* ما هو الأثر الإقليمي المترتب على تلك الإحداث وبالخصوص الوضع العراقي والسوري؟.
القراءات الاعلامية للمشهد التركي
وفي خضم تلك التساؤلات من المهم ان نتوقف عند تعاطي بعض وسائل الاعلام الاجنبية مع الازمة التركية..
* صحيفة الأوبزرفر البريطانية, قالت ان اسباب اندلاع المظاهرات في تركيا ليست بسبب اقتلاع اشجار من ميدان تقسيم, بل أنَّ عمليات النمو الاقتصادي في تركيا خلال العقدين الماضيين دفعت الكثيرين إلى الهجرة من القرى والبلدات المحيطة بإسطنبول إلى قلب المدينة وهو ما أسهم بدوره في احداث طفرة في مجال التشييد و البناء وكان حزب العدالة والتنمية بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان هو المستفيد الأكبر من هذه التطورات حيث نظر إليه أغلب سكان تلك المناطق الجديدة التي أضيفت إلى إسطنبول على أنه السبب الرئيسي في هذا النمو.
* صحيفة الاندبندنت البريطانية, بينت أنَّه يمكن النظر إلى هذه التظاهرات في تركيا على أنها إشارة صحية، فالأتراك لم يعدوا يخافون من الشرطة، أو من رد الفعل العسكري، علمًا أنَّ رئيس الوزراء التركي رجب طيب الدين أردوغان دشن عملية حوار مع الزعيم الكردي المعتقل عبد الله أوجلان من أجل التوصل إلى تسوية دائمة.
* اما صحيفة واشنطن بوست الأمريكية فقد اشارت نقلا عن وكالة "أسوشيتيد برس" الى ان الأطراف المتنازعة في مصر سواء الليبراليين أو مؤيدي جماعة الإخوان الحاكمة، أتفقت على ان الاحتجاجات التي اندلعت في تركيا، أعطت الشعب المصري الذي يعاني من مستويات متدنية في الناحية الاقتصادية وصلت بأغلبيتهم الى مستوى خط الفقر، نموذجا محيرا لتزاوج الحكومة الإسلامية بالمبادئ العلمانية لتحقيق الرخاء على المدى الطويل.
* صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، الصادرة في لندن، اعتبرت أن رئيس الوزراء التركي قدم "عرض قوة شعبياً في مواجهة المتظاهرين المطالبين باستقالته"، وذلك باحتشاد الآلاف من أنصاره لاستقباله في المطار لدى عودته من جولة خارجية استمرت ٣ أيام.
هذه النماذج القليلة من القراءات المختلفة للازمة التركية، تشير الى ان هناك عوامل عديدة تقف وراء ماجرى ويجري، وانه لايمكن القول بواحد منها ونفي وتجاهل العوامل الاخرى.
المواقف والتوجهات
تواردت جملة من ردود الفعل الدولية إزاء ما يحدث في تركيا من مظاهرات واحتجاجات في ميدان تقسيم في اسطنبول ومدن اخرى ويمكن ان نستعرض جانبا من تلك المواقف:
* وزارة الخارجية الأمريكية وعلى لسان المتحدثة باسمها جينيفر باسكي, قالت نحن قلقون حيال عدد الأشخاص الذين أصيبوا حين فرقت الشرطة المتظاهرين في اسطنبول, وأن السبيل الأفضل لضمان الاستقرار والأمن في تركيا, هو احترام حريتي التعبير والتجمع اللتين كان هؤلاء الأشخاص يمارسونهما بشكل واضح, ونبهت إلى إن هذه الحريات حيوية لأي ديمقراطية سليمة.
* منظمة العفو الدولية وفي بيان لها, اكدت انه يتعين على السلطات التركية اتخاذ خطوات طارئة للحؤول دون وقوع المزيد من القتلى والجرحى، والسماح للمتظاهرين بالحصول على حقوقهم الأساسية وضمان أمن كافة المواطنين.
* المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل, دعت الحكومة التركية الى عدم استخدام العنف ضد المتظاهرين.
* زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان, اعلن عن تأييده للمظاهرات المناهضة للحكومة رغم مفاوضات السلام التي يجريها مع السلطة التركية.
* رئيس لجنة الخارجية والأمن فى الكنيسيت الاسرائيلي افيغدور ليبرمان قال في تصريحات ادلى بها للتليفزيون الإسرائيلي, اننا لسنا معنيين بالتدخل فى الشأن التركى إلا أنني لا استطيع أن أخفى سعادتى بما يحدث هناك، وهو ما يعكس موقفًا إسرائيليًا معاديًا لسياسات أردوغان.
* رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان, دعا ناخبيه إلى "تلقين درس" للمتظاهرين خلال الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في آذار/مارس ٢٠١٤. واعتبر أردوغان أن المحتجين "جبناء, مبينا ان صبره بدء ينفذ وسوف يقوم بإجراءات رادعة إذا لم يعود المتظاهرين إلى منازلهم.
* زعيم الحزب الجمهوري التركي وهو اكبر احزاب المعارضة, كمال ليلتشدار اوغلو, دعا الى تظاهرات حاشدة لإقالة رئيس الوزراء التركي .
* بولند أرينج نائب رئيس الوزراء التركي, قدم بعد لقائه الرئيس التركي عبد الله جول اعتذاره لأنصار البيئة قائلاً, إن التظاهرات الأولى التي نظمت على أساس مخاوف بيئية كانت عادلة ومشروعة، لكنه أضاف لن نعتذر للمتطرفين الذين سببوا الأضرار في الشوارع وحاولوا عرقلة حرية الناس.
* الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, دعا الشعب التركي إلى الالتفاف حول حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، والحفاظ على الإنجازات التاريخية التي حققتها. جاء هذا في بيان أصدره الاتحاد وذُيِّل بتوقيع رئيسه يوسف القرضاوي، وأمينه العام علي قرة داغي.
مجهر البحث في ابعاد وتداعيات الاحتجاجات التركية
اربعة شبان ارادوا الاحتجاج على قرار اقتلاع الاشجار من حديقة غيزي المجاورة لميدان تقسيم, وقد نصبوا الخيام لاستقبال المتعاطفين معهم من فنانين وادباء, هكذا بدأت شرارة جماهيرية تركية سرعان ما كبر تأثيرها وأثرها حتى تحولت في الايام التالية الى الاف المواطنين المحتشدين, وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لهذه (الحديقة),والذي يعد رمزا للنضال التاريخي اليساري في اسطنبول, غير ان ذلك ربما يكون القطرة التي افاضت الكأس, وليس كما بدت انها مشكلة بيئية, فتركيا اردوغان ليست هي تركيا ما قبل عام ١٩٩٧, فطبيعة السياسة الخارجية والمذهب الايديولوجي فيها قد ابتعد كثيرا عن هويتها العلمانية التي أسس قواعدها كمال اتاتورك عام ١٩٢٣, وبالتالي فأن حزب العدالة والتنمية وهو حزب اسلامي, اخضع الدولة التركية لقالب الأسلمة السياسية, منذ وصوله الى الحكم عام ٢٠٠٢, وهو ما اثار مخاوف النصف الاخر من الشعب التركي الذي كان يقف بالضد من انتخاب حزب العدالة والتنمية, وخصوصا ان المكاسب الاقتصادية التي حققتها حكومة رجب في ظل الازمة الاقتصادية العالمية, كانت مكاسب كبيرة اسهمت في ظهور اقتصاد تركي ثقيل في الاتزان والتأثير, مع أن بعض الاراء في الاوساط التركية ترى ان الاقتصاد الذي اتى من بوابة حزب العدالة والتنمية, قد خلق طبقتين من أغنياء وفقراء وغياب الطبقة الوسطى, وهذا جزء من كل مع مايجري في تركيا, يترافق مع ذلك أن الحزب الحاكم وبقيادة زعيمه, اعتمد سياسة التهميش للاحزاب الاخرى ومنها الحزب المعارض الاكبر ذو الصبغة العلمانية, حزب الشعب الجمهوري, والاتجاه نحو التفرد بالسلطة وهو مايمكن قرأته من خلال المساعي الحكومية في تمرير بعض القوانين والتغييرات الدستورية والتي تتضمن تعديل دستوري يحول تركيا الى نظام رئاسي قد يضع اردوغان في منصة الحكم لغاية ٢٠٢٢,اضافة الى قانون الحد من بيع الخمور, والحد من الاجهاض, وغيرها في بعض الاجراءات التي اعطت التفويض لانطلاق الحركات الاحتجاجية وبزعامة الاحزاب العلمانية والمناهضة للأسلمة المتطرفة, وكمحاولة لأدخال الدين طرفا في الأزمة, وكخطوة لاستنهاض مناصريه, حاول اردوغان ان يجر المظاهرات الى اقتتال مذهبي,عندما قال انه يريد ان ينشأ جامعا كبيرا في ميدان تقسيم بدلا من المركز التجاري الذي كان يروم تشييده هناك, كما أن جسر (يافوزسلطان سليم ) الذي اطلقت عليه التسمية من رجب طيب اردوغان قد أثار حفيظة الأكراد, والعلويين البالغ عددهم اكثر من عشرين مليون, وهو مايعني استيراد التأريخ وبثه في الحاضر التركي في استخدام اسم السلطان سليم صاحب المجازر المعروفة بحق العلويين والاكراد قبل ٥٠٠ عام .
الى ذلك يضاف, أن الدولة التركية الحديثة التي نشأت في العقد العشريني من القرن المنصرم, تميزت بسلطة عسكرية كبيرة طالما وقفت في حماية العلمانية من هجمات الهويات الايديولوجية الاخرى, وهو مايجعل المخاوف تتسع من قبل الشارع التركي بعد أن عمدت حكومة اردوغان الى تقليم أظافر المؤسسة العسكرية وتحديد مناطق ومساحات الاشتغال والتأثير لها.
تلك هي مجمل عام للمحركات الداخلية التي دفعت الى تثوير الشارع التركي وفيما تبقى العوامل الخارجية والتي دفعت الى انفجار الداخل التركي والاصطفاف بالضد من سياسات حزب العدالة والتنمية وطبيعة اداء رئيس الوزراء التركي رجب اردوغان .
العوامل الخارجية للازمة
قد بات من الواضح طبيعة ورغبة تركيا في رسم مسار لها تكون فيه اللاعب الكبير في منطقة الشرق الاوسط والعراب المجتهد للارادات الغربية في المنطقة, كجزء في تحقيق الحلم التركي بدخول الاتحاد الاوربي الذي بدأ اوائل ثمانينات القرن المنصرم ولم يحسم لغاية الان, تلك الاهداف التي تبنى تحقيقها حزب العدالة والتنمية, دفعت بأن تكون تركيا الحوت الذي يسعى لابتلاع الدول المجاورة والاقليمية التي تقف حجر عثرة في طريق الستراتيجية التركية الاردوغانية, فتدخل تركيا السافر في ما يجري في سوريا من دعم مادي ومعنوي وسياسي للمعارضة السورية المناهضة لبشار الأسد, والمساعي الحثيثة التي يبذلها ارودغان لتقويض العملية السياسية في العراق عبر توجيه وتفسير مايجري في العراق من احداث بقاموس طائفي بغية توظيف الدين في استدارج الداخل السياسي العراقي لصالحه وتحريك المشهد بأدوات سياسية عراقية تنحدر من دعم وتغذية تركية,وكما هو واضح في المخطط التركي القطري في قلب المعادلة العربية والاقليمية واعادة توزيع القوى بمسطرة تركية.
تركيا التي اعتمدت في ظل حزب العدالة والتنمية تصفير الأزمات, وجدت نفسها في تدور في فلك تفقيس الازمات, على المستوى الداخلي او الخارجي, وهذا اجراء طبيعي ورد فعل متوقع جراء السلوك التركي عبر التدخل وحشر الأنوف في خصوصيات الدول, فتركيا اليوم, تسعى الى توظيف اهداف القطب الغربي الرأسمالي في الداخل التركي والخارج الاقليمي وفي الوقت ذاته تسعى الى مصالحة الحاضر التركي مع التأريخ العثماني, وهما خطوتان تصارع احداهما الأخرى, تلك السلوكيات جعلت العلاقة الروسية التركية خارج نطاق الوفاق الدولي وخصوصا بعد نشر الدرع الصاروخي الامريكي على الحدود التركية السورية, وكذلك فأن العلاقة الاستراتيجية التركية الايرانية
والتي تميزت بالايجابية لاكثر من ثلاثة عقود, بدأت بالتراجع والانحدار جراء الموقف التركي ازاء سوريا والعراق، اضافة الى السياسة الداخلية التركية تجاه العلويين الاتراك.
على الصعيد الأخر, اسرائيل لاترغب ان تكون تركيا صاحبة التفويض الامريكي الاكبر في الشرق الاوسط, وكذلك فأن بعض الدول الأوربية مثل اليونان لا تريد ان تنجح تركيا في الانضمام الى الاتحاد الاوربي بسبب الخلافات معها بشأن قضية جزيرة قبرص, اضافة الى ذلك ان تركيا اذا ما نجحت في دخول الاتحاد الاوربي ستسحب البساط من تحت اقدام الكثير من الدول الاوربية بسبب تعدادها السكاني ومساحتها الجغرافية ورصيدها الاقتصادي .
المشهد العراقي في تداعيات تركيا
كما هو موضح أنفا أن تركيا اليوم, تحاول ان تنفذ الى الحاضر بلباس الامبراطورية العثمانية وهي من خلال ذلك تمد الاذرع والجذور خارج ارضها, ولما كان العراق احد العصي التي تقف في دولاب الاجندة التركية لذلك اسهمت وطيلة اكثر من ست سنوات في التأثير المباشر وغير المباشر في سحب الواقع السياسي العراقي الى ميول وتوافقات الوجهة السياسية التركية, وبما ان العراق يقع في خط عرض سياسي مع احداث سوريا ومايترتب على الاخير يتأثر به الاول, فأن تداعيات المشهد التركي من احتجاجات ومطالبات برحيل حكومة اردوغان, قد تفضي الى تخفيف الضغط على الجبهة السورية لانشغال الحكومة التركية في مشاكلها الداخلية, ومن واقع مصائب قوم عند قوم فوائد, وهو ما قد ينعكس واقعا وضمنا على الساحة العراقية السياسية في الظرف الأني والمستقبل القريب,شريطة أن تكون هناك واقيات حكومية عراقية سياسية تستطيع ان تتحكم في منع الاضرار النافذه الى الواقع العراقي .
النتائج والقراءات المحتملة لمجريات الاحداث في تركيا
من خلال كل ذلك يمكننا ان نستنتج مايلي :
* ربما انطلت فكرة الغرب بزعامة الولايات المتحدة الامريكية على حكومة اردوغان في أن يكون هرقل الشرق الاوسط, غير أن الاستراتيجية الغربية ربما تلتقي مع تركيا في بعض المشتركات والاهداف لكنها لاتعطي لها وكالة عامة في جميع المفاصل الأخرى أذا ما نظرنا الى أن الحكومة التركية منحدرة من فكر اسلامي سياسي وهو ما لايروق لمعشوقة البيت الابيض اسرائيل وبالتالي تضع امريكا في موقع قصقصة الاجنحة التركية, ولذلك من خلال المواقف التي رشحت من المواقف السياسية الغربية والامريكية على وجه الخصوص, تتوافق ضمنا مع ارادات ومطاليب المتظاهرين, بالتالي لايمكن الجزم بأن القوى الغربية ليس لها أثر ودور في ذلك .
* الحكومات التركية وعلى مدار اكثر من خمسين عاما, قامت على فرض المنهج العلماني المتطرف، في حين أن تركيا رجب تبنت المنهج الاسلامي الذي بدا معتدلا، لكنه اخذ ينحو منحى طائفيا-مذهبيا، بعيد الى حد كبير عن الطابع الديمقراطي الصحيح.، وبما يكرس حكومة أحادية الاتجاه بنفس تسلطي يعتمد الدكتاتورية الديمقراطية في تغليب الاغلبية وعزل الاقلية الأخرى عن مواريث السلطة والقرار, وهذا مايدفع المعارضين لسياسات الحكومة التركية الى تحشيد وتغذية الاحتجاجات من أجل رحيل اردوغان على اقل تقدير, ومن ثم تقليص وتحجيم الرصيد الشعبي الذي يحظى به حزب العدالة والتنمية, بغية وصول الاحزاب الأخرى الى السلطة .
* اذا لم تستطع المظاهرات الاحتجاجية اسقاط حكومة اردوغان والباقي من عمرها التشريعي ثمانية أشهر, فأنها بالتأكيد سوف تسهم بشكل كبير في التأثير في عدم حصول حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية القادمة في ٢٠١٤على الاغلبية كما حصل في انتخابات ٢٠١١ .
* اندلاع التظاهرات والاضطرابات في الشارع التركي، لاشك انه سيؤثر على دور تركيا الاقليمي وحضورها، لاسيما في الازمة السورية، وسيجعلها منشغلة بأوضاعها الداخلية، وحتى لو توقفت او انتهت التظاهرات فأن مظاهر الرفض للسلطة ستبقى قائمة ويمكن ان تتوسع، ومايعزز ذلك النزعات القومية الكردية، وموقف الحكومة التركية المؤيد للمكون السني على حساب المكون الشيعي-العلوي في سوريا تحديدا، وكذلك في العراق .