فاحترام الحياة الإنسانية، في عقيدة التوحيد، مؤسّس على مشيئة الله، جلّ وعلا، في استخلاف الإنسان في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾
وفي احتواء كينونته على نفخة من الروح الإلهي استحق بها سجود الملائكة له ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وفي حمله أمانة العقل والحرية والمسؤولية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾، وفي تسخيره، جلّ وعلا، السماوات والأرض له ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
وبصرف النظر عما في هذه الآيات القرآنية من رمز، فإنّ الإنسان، في النظرة العقلائية مميّز عن سائر مخلوقات عالم الشهادة باستعدادات فطرية تؤهّله لأن يكون مدركاً لأفعاله، مختاراً لها في إطار السنن الحاكمة على الآفاق والأنفس، متحمّلاً لمسؤوليته عنها، ما يجعله مدركاً لقيمة ذاته، وقيمة ذوات الآخرين من نوعه، قياساً على سائر المخلوقات، وهذا ما يؤدي من حيث المبدأ، إلى احترام الإنسان حياته، واحترام حياة الآخرين.
هذا التأسيس العقلائي لاحترام الحياة الإنسانية، لا يختلف بالنتيجة التي يؤدّي إليها، عن التأسيس الإسلامي خاصة، والتأسيس الديني عامة، وإن اختلف في المرتكز الذي يقوم عليه هذا التأسيس، وفي مدى ضمان الالتزام بالنتيجة المترتّبة على هذا التأسيس أي باحترام حياة الإنسان.
وإذ يؤكّد الإسلام على احترام حياة الإنسان، فإنه لا يربط هذا الاحترام بأي من عوامل التمايز الواقعي بين الناس في الدين أو المذهب أو العرق، أو المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
الأمر يتعلق لديه، باحترام حياة الإنسان بما هو إنسان، ولا يتعلق بأي أمر آخر. وتعبيراً عن هذه الحقيقة فإنه يعتبر أن ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾، لأن النفس الإنسانية، أي نفس، وبصرف النظر عن أي تمايزات واقعية، هي موضع الإحترام، والتعظيم من شأن قتلها ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ فإنه يعتبر من قتلها كأنما قتل الناس جميعاً.
الإسلام إذ يربط احترام حياة الإنسان بمشيئة الخالق، فإنه يجعل لهذه القيمة صفة الثبات والإطلاقية المستمدة من ثبات وإطلاقية مصدرها، ما يفرض على المسلم أن لا يتعاطى معها بصورة هنا، وبصورة مختلفة هناك، تبعاً للظروف المتغيرة والمصالح المتنوعة، وهذا شأن كل قيمة من القيم التي ينص عليها الإسلام.
أما المساواة بين الناس في القيمة والاعتبار وفي الحقوق والواجبات، ترتكز على ما أشرنا إليه من أن جميع الناس يشتركون في كونهم مؤهلين لإدراك وجود خالقهم ومستخلفين ومكرّمين وحاملين لأمانة العقل والحرية والمسؤولية... إضافة إلى أنهم مخلوقين من نفس واحدة ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ "كلكم لآدم وآدم من تراب"، "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى" ومتساوين في الفطرة الإنسانية "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه".
أما تصنيف الناس في إطار تساوي أفراد النوع في كل ما تقدم، فيتم إما وفقاً لمعيار الإيمان بما أنزل الله والعمل به، حيث ينقسم الناس إلى مؤمنين، ومنافقين وكافرين، أو تبعاً لمعيار الشرعة في إطار الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث ينقسم الناس إلى مسلمين وأهل كتاب (يهود، مسيحيين، صابئة...) أو تبعاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث ينقسم الناس إلى الملأ وهم مستكبرون عادة إلا من أتى الله بقلب سليم، وعامة الناس وفيهم المكتفي والمحتاج... لكن كل هذه التصنيفات لا ترتب اختلافاً في الحقوق والواجبات المدنية في الاجتماع السياسي الإسلامي ما عدا مسألة الجزية التي أوضحنا مبرّراتها سابقاً، وما عدا ذلك فمتروك للحساب الأخروي. أكثر من ذلك، عندما قرّر الإسلام: "وفي أموالكم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم" كان يقرّر العمل على إضعاف الفوارق الاقتصادية والاجتماعية الواقعية بين الناس.
أما في ما يعود للمساواة بين الاجتماعات السياسية، يؤكّد الإسلام على تنوّع الجماعات والشعوب، وبالتالي تنوّع الاجتماعات السياسية مشيئة إلهية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾. وفي عملية التعارف ينبغي أن تكون الأطراف الداخلة فيه متساوية في الحقوق والواجبات. فلا يبقى أحدها على الآخر لأنه أقوى، ولا يستضعف أحدها نفسه فيقر الباغي على بغيه... وفي ما تقدّم رأينا كيف فصل الإسلام التشريع للعلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، وكيف فرض على ذلك المجتمع أن يتعاطى بالعدل وبالحق مع تلك المجتمعات.
أما ما أشرنا إليه من حق من بغي عليه أن يعمل بشتى الأساليب المشروعة والمحقّة لدفع البغي، والتعاطي في ذلك بالعدل... فهي نتائج طبيعية لمساواة الأفراد والجماعات والاجتماعات السياسية في الحقوق والواجبات.