توطئة
بات المشهد العراقي بشكل عام , مثار جدل ونقطة خلاف حول الكثير من الاخفاقات التي باتت متجذرة في الركب المؤسساتي للدولة العراقية بعد زوال الطاغية صدام عام ٢٠٠٣, غير ان الملف الأمني يأتي في مقدمة الاستفهامات التي تبحث عن اجوبة شافية وخصوصا في ظل ازدياد مستوى الهجمات الإرهابية مع الإخفاق الكبير والواضح في الجوانب الأمنية, وحقيقة ان جوهر البحث ومضمون الدراسة في الاخفاق الأمني لايتأتى من ازدياد الهجمات الارهابية في الفترة الأخيرة, بل محور الاشكال ينطلق من قوى امنية تجاوزت في اعدادها مليون ونصف المليون عنصر دون ان يساهم ذلك في انخفاض معدلات الحوادث الارهابية، من جهة ، ومن جهة أخرى طبيعة العملية السياسية في العراق ومدى التوافق والانسجام فيها وتأثير ذلك على البلاد من حيث الامن والاستقرار.
العقل السياسي في ادارة واخراج العراق من مستنقع الازمات, يقودنا الى جملة من التساؤلات الواجب المرور عليها كمدخل رئيس في بوابة التحليل السياسي
• هل ان التركيبة السياسية التي تأسس عليها المشروع السياسي في العراق بعد ٢٠٠٣, اسهمت في خلق تربة سياسية غير صالحة لانتاج استقرار سياسي؟.
• الاخفاق الامني في العراق , هل هو نتاج لقصور في العقل الامني العراقي , ام ان قدرات الارهاب اكبر من امكانية الدولة العراقية؟.
• من يطارد من , الارهاب ام الحكومة؟.
• كيف ستكتب نهاية مسلسل الارهاب في العراق.
البداية والانطلاق
بداية الإشكالية التي تنطلق منها المعادلة العراقية السياسية ما بعد ٢٠٠٣ , احتلال العراق في لحظة التحرير من احتلال داخلي , والذي أرسى أسس وبواعث الانقسام في شكل ومضمون العراق كنسخة سياسية مؤهلة في تبديد مخاوف المتضرر من التغيير من جهة , وطمأنة الفرد العراقي الذي قبع تحت مطرقة ظلم واستبداد النظام الصدامي السابق من جهة أخرى, لتبدأ العملية السياسية في ظل جملة من التحديات والقراءات المعقدة, وخصوصا إن إرادة الاحتلال الأمريكي تحكمت في توجيه الكثير من الرغبات والإرادات لبعض القوى السياسية وحسب ما ترغب به واشنطن وطبقا لما يتناسب مع المصالح القومية الأمريكية, مع مخاوف الخارج الإقليمي والدولي من جراء عملية إسقاط نظام البعث في العراق , وماهية البديل السياسي القادم وما يحمل من أيديولوجية سياسية في إطار الخارطة الدولية, فيما تبقى العقبة الكبيرة في إطار التحول السياسي في العراق, مدى مقبولية وتقبل المكون السني الذي نقلته سرف التغيير من تصنيف حاكم لعقود من الزمن, إلى واقع المحكوم من قبل المكون الشيعي الأكثر تضررا من النظام الصدامي السابق.
اذا ما تتبعنا مرحلة النشوء السياسي في العراق ما بعد ٢٠٠٣, سنجد ان الاساسات التي اقيمت عليها السلطات المتعاقبة , كانت تنطلق من جدلية الصراع وتزاحم الهويات الفرعية , بدءا من تشكل مجلس الحكم في ٢٠٠٣ , والطريقة التي تنتقل فيها رئاسة المجلس, مرورا بتشكيل الجمعية الوطنية ووصولا الى الحكومة المؤقتة بزعامة اياد علاوي وانتقالا الى كتابة الدستور والانتخابات التشريعية الاولى ٢٠٠٥ ,وتشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة ابراهيم الجعفري, وانتهاءا بتشكل الحكومة الدائمية الاولى برئاسة نوري المالكي عام ٢٠٠٦, فالاختلافات ما بين الفرقاء كانت سيدة الموقف في الكثير من المقاطع الزمنية من تلك الفترة , اذ نجد ان المكون السني بدأ المشوار بالرفض ومقاطعة العملية السياسية , في حين تجد ان البيت الشيعي يرمي باثقال الحضور في الشكل السياسي لعراق مابعد التغيير, وهنا نستطيع القول ان كلا المكونين الاساسيين في العراق من مكون سني وشيعي, كانت لديه بعض القرارات والقناعات المسبقة دون تبرير منطقي, فمثلا الدستور الذي كتب عام ٢٠٠٤, قد جوبه بالرفض من الاوساط العامة في المكون السني , دون معرفة تفاصيل ما يدور فيه الدستور , فيما تجد في الجانب الاخر, ان المكون الشيعي من اوساط شعبية عامة قد رمى ببطاقة المرور لتمرير الدستور دون معرفة واضحة في حيثيات وتفاصيل بنوده, وهو مايوضح ان الية الانتقال والتحول في المسار السياسي العراقي انبعثت من بيئة معتلة الركائز, وخصوصا ان القوى السياسية اشتغلت في مساحات جهوية وفئوية دون الاكتراث الى تأسيس وتفعيل الهوية الوطنية والتي يفترض ان تكون الاطار العام لمراحل التأسيس والبناء سواء على المستوى السياسي او الاجتماعي .
فيما بعد نستطيع القول ان الولايتين الرئاسيتين لنوري المالكي (٢٠٠٦_٢٠١٠), كانتا في الكثير من اشكاليتها , اسقاطات لمرحلة الانطلاق والتكوين ما بعد ٢٠٠٣, حيث افتقاد الهوية الوطنية ومعاول التوافقات السياسية , فيما تبقى الاحداث التي شهدها العراق من خلافات سياسية وحرب طائفية خصوصا في فترة مابعد احداث سامراء عام ٢٠٠٦, ولغاية ٢٠٠٨, من اهم المفاصل االرئيسية التي أبعدت العملية السياسية في العراق عن قواعد الانطلاق الوطني, فضلا عما جرى في عام ٢٠١٠ , والاختلاف في تفسير قرار المحكمة الاتحادية بخصوص الكتلة البرلمانية الأكبر والتي وضعت القائمة العراقية خارج نطاق السلطة التنفيذية, ومن ثم ما ترافق بعد ذلك من خروج القوات الأمريكية في نهايات عام ٢٠١١, وصدور مذكرة إلقاء القبض بحق نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي , وماتلاها بعد ذلك من ادانة القضاء العراقي لوزير المالية رافع العيساوي, هذا من جانب , ومن جانب أخر , الإرادات الإقليمية والدولية واستخدام بعض الكيانات والقوى السياسية في الداخل العراقي وتحويلها الى دكاكين لتنفيذ وتسويق الأجندات الأجنبية , بغية تقويض المشروع السياسي في العراق ومحاولة إعادة تركيب العراق سياسيا بما تشتهي وتنسجم مع رغبات تلك الدول.
الواقع الأمني في عشرة اعوام
اتسم مشهد العراق السياسي ما بعد سقوط النظام ٢٠٠٣, بالكثير من الأزمات والإحداث المتفاقمة في العلل والتقاطعات السياسية والتي ترجمت على ارض الواقع سلطات متعثرة وقوانين معطلة واخفاقات متلاحقة , وفي اغلب الجوانب المؤسساتية سواء في الجانب السياسي او الأمني او الخدمي , فإذا ما قرأنا المشهد الأمني على وجه الخصوص , سنلاحظ ان العراق ومع بداية المشروع السياسي فيه بعد سقوط النظام, بدأ مخترق الخطوط غير ان نسبة الخرق فيه لم تتعدى مستوى الخطر في قاموس التأشير, فأذا ما توقفنا في المراحل الزمنية الأولى من عمر الدولة العراقية الجديدة من عام ٢٠٠٣ ولغاية ٢٠٠٦, وما شهدته من اعمال عنف وارهاب من اغتيال للسيد محمد باقر الحكيم عام ٢٠٠٣, وكذلك اغتيال عضو مجلس الحكم السيدة عقيلة الهاشمي من العام نفسه,فضلا عن تفجير مقر الأمم المتحدة في العراق, واغتيال عضو مجلس الحكم ورئيسه الدوري السيد عز الدين سليم (عبد الزهرة عثمان)، وغيرها من الاعمال الارهابية, سنجد ان مستوى الخروقات الامنية كان اقل بكثير من حيث التخطيط والتنفيذ واعداد الضحايا, مقارنة بما وصل اليه العراق للفترة الممتدة من ٢٠٠٦الى ٢٠١٠, مع ان اجمالي الضحايا وحسب دراسة أجرتها وكالة اسوشييتدبرس أشارت إلى أن عدد الشهداء في العراق من نيسان عام ٢٠٠٣ حتى نيسان ٢٠٠٩ بلغ ١١٠ آلاف شخص, غير انه يمكن القول ان الحرب الطائفية ما بعد تفجيرات سامراء للفترة الممتدة ما بين ٢٠٠٦ ولغاية نهايات ٢٠٠٨, كان لها ما يقارب ٤٨% من تلك الاحصائيات, فيما أشارت احصائية لوكالة الصحافة الفرنسية بناء على بيانات وزارات الدفاع والداخلية والصحة العراقية إلى سقوط ٢٤١٦ شهيد حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) ٢٠١٠ , فيما بينت منظمة حصر القتلى في العراق ان عدد القتلى في العراق لعام ٢٠١١, بلغ ٤٠٥٩ شهيدا, اما عدد القتلى لعام ٢٠١٢ فقد تجاوز ٤٧٠٠شهيد, فيما أشارت احصائية قدمتها "فرانس برس" ان عدد الضحايا لعام ٢٠١٣ ولغاية شهر أيلول بلغ أكثر من ٣٨٠٠ شهيد.
إسقاطات المرحلة وتداعيات الإخفاق
المعادلة السياسية في العراق تتأثر بشكل كبير بتفاعلات وطبيعة ما تفرزه من أرقام , على متغيرات الإحداث سواء على المستوى الداخلي او على الصعيدين الدولي والإقليمي, وبالتالي فأن استقرار النظام السياسي يوفر بيئة مؤسساتية قادرة على تطويق المتغير من تداعيات وما يمكن ان يحدثه من اثر وتأثير سلبي, وهنا لابد من التسليم بحقيقة واضحة وهي إننا وبعد عشر سنوات من مرحلة التغيير ما زلنا نفتقد الى شكل سياسي واضح المعالم متزن الحراك, وهو ما أسهم بشكل واضح في تعقيد المشهد العراقي وتوالي الانهيارات التأسيسية في واقع الدولة العراقية, غير ان الواقع الأمني كان ابرز المعالم الطافية فوق السطح.
عموما وكما اسلفنا انفا, ان التركيبة السياسية التي شرع فيها بناء الدولة العراقية ما بعد ٢٠٠٣, قد وطدت بوادر الانقسام وأدوات الاختلاف, من فقدان للهوية الوطنية , والنظر الى الوطن من النافذة الحزبية او الكتلوية , فضلا عن التأثير الإقليمي والدولي في شكل وطبيعة التحول في النظام السياسي العراقي , وما يمكن ان يحدثه صعود الخط الشيعي السياسي في تسنم مهام السلطة , من مخاوف وتحديات للأخر سواء في الداخل أم خارج أسوار الخارطة العراقية.
من جانب أخر إن جغرافية احداث ما بعد ٢٠١١, قد اختلفت عما سبقها ما قبل ذلك التأريخ, وخصوصا احداث مايسمى بالربيع العربي , وما سببه من اختلال في موازين القوى في المحيطين الاقليمي والدولي على وجه العموم , مما اسهم في جعل العراق منطقة مصابة بوباء الاجندات الخارجية , بعد ان وجدت المناخ السياسي الملائم لها في الارض العراقية لانتشاء وانتشار تلك الارادات, في ظل الانقسام السياسي بين القوى السياسية العراقية , والطريقة التي ركبت بها قافلة السلطة في العراق.
البعد الأخر في إطار الأزمة العراقية , المعالجات البسيطة التي تتبناها الحكومة العراقية في اصلاح الملف الامني, بدءا ان وزارتي الدفاع والداخلية كانتا ضحية المحاصصة السياسية مما وضعهما تحت حكم الوكالة , يضاف الى ذلك الية اختيار الشخصيات المتصدية للملف الامني واعتماد معيار الولاء الحزبي للكثير من هؤلاء في تسنم المناصب المهمة, فضلا عن ذلك ان الجهد الاستخباري ما يزال قوة غير مؤثرة في التقليل من خطر الهجمات الارهابية , اذا ما ادركنا ان الارهاب في العراق ومنذ اكثر من عامين , باتت عملياته اكثر تنظيما وادق تنفيذا , واوسع تأثيرا, وهو ما وضع الاجهزة الأمنية في دائرة الاحراج والعجز في مواجهة تلك العمليات, يضاف الى ذلك ضعف التقنية المستخدمة في كشف وتشخيص ومعالجة الخروق الامنية.
وأخيرا , ان قوى الارهاب اليوم , قد قلبت المعادلة وباتت تطارد الحكومة , بدلا من ان تكون الارض ممسوكة من قبل السلطة, وعليه فأن مؤشرات ارتفاع وتأثير حدة الهجمات الارهابية ستكون في ازدياد متواصل , واذا ما اردنا معالجة حقيقية علينا ان ننطلق من اصلاح البيت السياسي العراقي اولا ومن ثم الاتجاه الى تأسيس حكومة تعتمد العقل المؤسساتي الواعي في تدارك ومعالجات الاخطاء, وأذا ما بقي العقل الامني يقرأ المشهد بالطريقة القائمة , فسيكون الوريد العراقي اكثر غزارة بنزف دماء ابناءه.