ورغم التقدم العظيم للبشرية، لكن عنصرية اللون لم تنته لا ثقافياً ولا حقوقياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً.. ولم ينته العنف والتمييز بسبب الجنس والجغرافيات والبلدان والطبقات والقوميات والاديان والمذاهب.زعماء العالم سارعوا بكلمات الرثاء، وسيحضر كثير منهم مراسم التشييع.. لكن الامانة الاخلاقية تقضي العمل اساساً لانهاء اشكال التمييز والعنصرية والاستعمار باشكالها القديمة والجديدة، وليس اراحة الضمير من اعباء وموروثات الماضي فحسب. يقول مانديلا "ان ثورة جنوب افريقيا لن تكتمل اهدافها قبل ان يحصل الشعب الفلسطيني على حريته".. فمن يقف مع مانديلا يجب ان يقف معه في افريقيا وفلسطين وفي كل مكان وقضية عادلة.. هنا اهمية مانديلا كرمز لهذا الكفاح والنضال.. فاختراق ضمير الانسانية وزعاماتها نصر كبير، وما اكبر منه تصحيح المسارات وانهاء اشكال الظلم والتمييز. دروس مانديلا للشعوب لا تقل اهمية عن دروسه للحكام.. فعظمته انه لم يجعل من حقده على اعدائه، وما تولده سنوات السجن الطويلة من احاسيس كبت وانتقام.. ومظالم الاستعباد والعنصرية والاستعمار والقتل الذي مارسته الاقلية العنصرية البيضاء سبباً لان يؤسس الوجه الاخر للظلم باسم الاغلبية هذه المرة.. بل جعل المصالحة الواعية لعدم تكرار ما مضى، والقائمة على ادانة جرائم الماضي والتذكير والتربية لنبذها واقرار الحقوق الاساسية، اساساً للتعايش وبناء المستقبل المشترك. مانديلا وغيره ممن يكدحون على درب الحسين ومحمد وعيسى وموسى.. نبكيهم ونتأسى بهم من اجل حياة افضل.. بكاء من اجل المظلومين والمحرومين والذين تقطع رؤوسهم ليل نهار.. وتأسي ودرس للانتقال من الجهاد الاصغر للاكبر.. والايمان بان الانتصار على النفس مقدمة لكل الانتصارات.. وعظمة العفو عند المقدرة، وكيف نحمل صليبنا، ونقف بوجه كل اشكال فراعين عصرنا. مانديلا رمز المناضل الذي استطاع الانتقال من الكفاح المسلح الى انهاء الفصل العنصري.. واحلال السلم والتعايش والقبول بالاخر.. ومن الاحياء الفقيرة الى بناء دولة عصرية.. ومن السجن الى اول رئيس لدولة جنوب افريقيا الجديدة.. فلم يغره المنصب والرئاسة، وتخلى عنهما لما هو اعظم.. ليبقى اميناً مع نفسه ومبادئه، وليصبح مواطناً عالمياً، وليحتل مكانته الرفيعة في القلوب والعقول والتاريخ.