وفي تلك الأثناء كان واضحا الانقسام في أسلوب العمل. فهنا العيساوي وعقلانيته وكياسته وذكاؤه، وبموازاته شباب وطنيون يحاولون مكافحة أي جملة متشددة او طائفية، وينظمون معرضا لمقولات فلاسفة عصر التنوير تتحدث عن قبح الاستبداد، وتقدس الحرية والاحتجاج الثوري. وعلى الطرف الآخر من الاعتصام، كان النائب احمد العلواني الذي اعتقل بطريقة دموية سقط خلالها شقيقه وبعض حراسه وعدد من جنودنا فجر السبت. وفي ساحة الاعتصام فوجئت برجل كبير أمام احدى الخيام مع أصحابه، ويبادر للترحيب بي ويجرني من وسط الشارع الى حيث يجلس. عرف نفسه بأنه والد النائب احمد العلواني، ويبدو ان العلواني الأب يعرف مسبقاً أنني من أسرة شيعية، فراح يتحدث عن تقديره لكل الأصوات الشيعية التي تفهمت مطالب المعتصمين ونددت بالشتائم التي وجهها المالكي للمعتصمين مثل وصفهم بالفقاعات، كما ذكر الرجل انه على قناعة بأن نهج المالكي مضر لكل الطوائف. هنا دخل علينا النائب احمد العلواني فتصافحنا وجلس الى جانبي يشرب الشاي. قلت له بصوت خفيض مراعياً وجودي في مضيف والده: أنت نائب في البرلمان، وأمامك فرصة لتكون اكثر دقة في اختيار الكلمات والهتافات والحركات، ولأنك نائب وابن أسرة معروفة فإن أمثالي ينتظرون منك ان تكون عنصر تصحيح لعواطف الشباب التي تجرفهم في أحيان كثيرة الى اعتماد أسلوب متشدد وطائفي وطائش، في المطالبة بحقوق مشروعة يتحمس لها اتجاه وطني عام واسع ومؤثر. يا سيدي اترك كلمة "صفوي" و"مجوسي" لأن هذا تعميم يساء فهمه ويجعلك في مواجهة طائفة بأكملها. لكن الرجل ابتسم وقال باستسهال: إنما هي عبارات غير جادة لتخويف المالكي وإثبات جدية تحركنا! أجبت: لكنك تساعد المالكي بهذا على تصويركم كطائفيين متعاونين مع العنف. رد العلواني: كلا، فالمالكي مكشوف، وحيله لن تنطلي على الناس! وبعد سنة، نجد انفسنا في موقف حرج، فالمالكي استغل أخطاء عديدة حصلت في ساحات الاعتصام، ونجح في إحاطة نفسه بجمهور يقل او يكثر، يصفق له، ووسط التصفيق الحماسي يختلط الحابل بالنابل، ويتوارى الحق وراء الباطل، ونشعر بنتيجة التصحيح الذي كان بطيئاً لشعارات الاعتصام. ماذا بعد؟، وهل نقف متفرجين، ونكتفي بتعداد أخطاء بعض المعتصمين التي ساهمت بتضييع بعض حقوقهم وإضعاف موقفهم السياسي في أحيان كثيرة؟ وهل نكتفي بالحزن على غياب الدور المعتدل الذي اختفى سريعا للعلامة عبد الملك السعدي، او الأدوار المعتدلة الأخرى التي شوش عليها صوت المعركة واستمرار الخطاب المنفلت لبعض خطباء منصة الاعتصامات؟ لقد بذل الصدر والحكيم وبارزاني، والتيارات العلمانية في الغالب، جهدا كبيرا في مساعدة المعتصمين على اختيار عبارات اكثر توازنا، في لحظة كانت العاطفة والشعور بكسر الكبرياء، تجرف المحتجين الى هستيريا احسن المالكي استغلالها شعبوياً. لكن المواجهة لم تكن بين هذه الأطراف وحسب، بل دخل تنظيم داعش المشؤوم لينصب نفسه مدافعاً عن التسنن، وظل الرأي العام منشداً الى استهداف القاعدة للشيعة، بينما كانت تستهدف الجميع (بحسب النسب السكانية ربما!). وهنا نجح تنظيم القاعدة والمالكي في الوقت ذاته، في تشويه صورة الاعتصامات أمام جمهور عراقي يقل او يكثر، لكنه يؤثر على الجميع، ويمنح زعيم دولة القانون ضوءً اخضر لتصفية جملة عقبات تواجهه. ان المشكلة اكبر من مكسب انتخابي نخشى منه او عليه. وهي اكبر من ان نظل نتبادل العتاب بشأن محاولات بطيئة لتصحيح أخطاء انفعالية كبيرة حصلت خلال الاعتصامات. والمشكلة اكبر من ان المالكي اعتقل العلواني ونسي أشباه واثق البطاط. فنحن أمام مرحلة صدام وطني لإعادة رسم قواعد الـ لا تعايش في بلد واحد. وما يحدث اليوم سيرسم الى حد كبير مستقبل السياسات الاجتماعية لوقت طويل. وعند هذه النقطة ينبغي لكل خصوم المالكي المطالبين بالإصلاح، ان يتوقفوا طويلاً، قبل ان ننفق مزيدا من الوقت في وصف عوراته وهناته وخطاياه