ومن هنا تبرز القيادة الحكيمة والكفاءة الإدارية للمرجع في التصدي لما يعتبره السياسيون مصدر القوة في القرار ، ذلك أن باستطاعة فتوى من سطر واحد أن تلغي فاعلية اتفاقيات التبغ التي أبرمها ملكٌ يجلس على سدّة الحكم، وفتوى أخرى تتشكل من ثلاث كلمات تقف بوجه الحزب الإلحادي الذي يعتبر الدين أفيوناً للشعوب، وهذا ما يخيف الماسكين بزمام الحكم في ساحة السياسة.
لهذا فقد مارست المرجعية الدينية على مدى التاريخ في عالمنا الإسلامي الدور الريادي في قيادة الأمة الإسلامية وبالخصوص أتباع أهل البيت فمن محاربتها للاحتلال الانكليزي وللفكر المنحرف الذي دخل إلى عالمنا وجهودها الكبيرة في موضوع الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب حيث وضعت قواعد هذا التقريب وأن الوحدة الحقيقية ليست في أن يتحول الشيعي إلى سني أو بالعكس، بل يتعبَّدُ اللهَ كلُّ بمذهبه مع التعاون في النقاط المشتركة، فهذه المصالح تأخذ مساحة واسعة من المفاهيم الإسلامية في الأحكام والعقائد وقسم منها اجتهادات العلماء والفقهاء والمفكرين والتي لاضير فيها، وأن التضخيم في الخلاف بين المذاهب منشئه المصالح الذاتية للسياسيين والحكام الذين يريدون تحقيق أهدافٍ معينة من خلال إيقاع الفتنة وتوسيع الفجوة بين المسلمين.
وقد إتَّسمَ ظاهر المرجعية الدينية بالابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وذلك لاختلاف مفهوم السياسة من عالم إلى آخر، ومن هنا نأت المرجعية بنفسها طيلة عقود طويلة عن السلطة والتصارع عليها لحفظ استقلالية الحوزة العلمية وعدم البقاء تحت هيمنة الحكام خاصة، وإن تدّخل المرجعية في السياسة مسألة معقدة أثيرت حولها إشكالات كثيرة ، وهذا لا يعني مطلقاً أن المرجعية لم يكن لها رأيٌ في الأمور السياسية وتشكيل الأحزاب، ولبعض العلماء دور واضح في تشكيل أحزاب سياسية إسلامية كان لها تأثير على الساحة.
فقد أنيط بالمرجعية دورٌ محوري فيما يتعلق بقيادة الأمة الإسلامية بصفة عامة وقيادة الطائفة الشيعية بصفة خاصة، حيث أنها تقوم مقام الإمام المعصوم إبّان غياب الحجة المنتظر (عج)، فهي المسؤولة عن توجيه الأمة للعمل بما يقتضيه الشرع الإسلامي الحنيف، وهي التي يجب عليها أن تتكفل بإشباع حاجاتها (أي حاجات الأمة) الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي وأن تراقب طريقة عملها وأن ترجعها إلى جادة الصواب في حالة بروز أي مؤشر يدل على الانحراف عن الجادة.
المرجعية الدينية رافد معرفي و ثقافي و روحاني يستقي منه المرء حاجته المعرفية و الروحية , و هذه المعرفة ليست من نسج الخيال و وحي الأوهام و التصورات الذاتية . بل على العكس من ذلك هي من معين القرآن العظيم و السنة المحمدية الأصيلة , و هذان المصدران كما هما لآخرة الإنسان هما لدنياه كذلك , و من آخرة المرء و دنياه أن يتناغم مع نسيجه الاجتماعي الذي يعيش فيه بما يكفل مصلحة الجميع .
و بتعبير آخر فان المرجعية الدينية الصالحة هي وجه الدين و التهمة لها تصبح تهمة للدين , فهل الدين يهدم الأوطان و يضر بمصالحها أم هو ضلع هويتها الأساس .
وإذا أشكل فقيل أن المرجعية عنوان عام تنطبق على من هو صالح ومن هو غير ذلك , قلنا أن الخطأ في الاختيار هو خطأ تطبيقي لا تلام فيه النظرية إنما يلام فيه المتهجم نحوها بعنوان خاطئ . فيصبح شأن المرجعية الدينية شأن المرجعيات الأخرى من اقتصادية و فنية و رياضية و سياسية و طبية فالأخذ عن العالم المختص سمة عقلائية و حضارية لا يضر بها الخطأ في تشخيص المصداق و غير داخل فيها شرط تماثل جنسية المرجع .
بقي أن اذكر أن عزتنا في التفافنا بمرجعياتنا الدينية الصالحة و النهوض بها و معها في صناعة أمة واعية رسالية و متحضرة , تدعوا إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و تحاور مختلف الأطياف و الأديان و المذاهب في شتى بقاع العالم بالتي هي أحسن بهدف نشر الخير و الصلاح و تعميم السلام و محاربة الجهل و التعصب و الانحراف فقد كان ولا يزال منصب المرجعية الدينية من المناصب الإلهية التي يتشرف بها المجتهد الجامع للشرائط لما لها من دور مهم وأساسي في الحياة الإسلامية وعلى الصعيد الواقعي فمنصب المرجعية يعني الاهتمام بأمور الأمة الإسلامية ورعاية مصالح الدين والمذهب ، ولا يخفى على المكلف الدور العظيم الذي يقوم به المرجع الديني الجامع للشرائط من حفظ لمكانه المذهب وصوّن أسسه ،،فالمذهب الأمامي الاثنى عشري في فترة الغيبة الكبرى يستند إلى المرجعية الدينية التي تعد هي القطب والمرتكز وهي المحرك وصمام الأمان لكل أبناء المذهب فضلا عن أبناء الأمة الإسلامية لان مراجع الدين لم يتعاملوا في يوم من الأيام مع أي حدث من أحداث الحياة الحاصلة على الساحة الإسلامية والإنسانية على أساس مذهبي ضيق بل كان منطلقهم هو الإسلام العظيم والإنسانية السمحاء والعمل من اجل كل أفراد البشر أيا كان انتماؤه
ان الدور الملقى على عاتق المرجعية مهم جدا ويشمل جميع الأصعدة الحياتية الاجتماعية منها والسياسية فضلا عن الدينية و الفتوائية فمعنى المرجعية لا يعني المرجعية في الفتيا فقط أو أن نشاطها يقتصر على الجانب الديني فقط فهذا غير صحيح ومن جزاف القول بل المرجعية تعني في نظر الأمامية هي الجهة القابضة على كل الأمور السياسية والدينية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية وهي التي تستطيع الخوض في المجالات التي تمس صميم مهمتها لذا فانه لم يكن دور المرجعية في يوم من الأيام ضيقا او هامشيا أو محدودا والتاريخ كفيل بإثبات صحة ذلك ولهذا السبب وردت العديد من الروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والتي أشارت إلى ضرورة الإتباع والانقياد والانصياع لأوامر المرجعية وعدم جواز الامتناع عن تنفيذ أوامرها ونواهيها حتى صار الراد على المراجع راد على الإمام المعصوم (علية السلام) ومنها ما ورد عن الإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) : { وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا } .
رغم تحّكم سلاطين الجوّر في العراق على الشعب العراقي ، وجعله يعيش في سجن صغير ، يمارس عليهم فنون التعذيب والقتل والتنكيل ، حتى ملئ الأرض مقابراً وجثث مجهولة الهوية ، وأكثر ما أوغل بدماء العلماء ومراجع الدين الكبار ، ولكنها ظلت صامدة بوجه طاغوت العصر وحزبه الفاشي ، وبقيت الحوزة العلمية على ارثها العلمي والتاريخي ، في تخريج خيرة علماء العصر ، من علماء وفقهاء ، يشارلهم اليوم بالبنان ، والعلم والفقه .
رغم ذلك وبعد سقوط النظام العفلقي ، ظلت تمارس دورها الأبوي في حماية الأمة الإسلامية ، والشعب العراقي ، وحماية مصالحه العليا ، فكان الإعلان الأول لها ، هو ضرورة انتخابات برلمانية مبكرة ، وانتخاب لجنة عليا لكتابة الدستور ، وإجراء الحوارات من اجل خروج الاحتلال من العراق ، فكان لها ما أرادت ، وكان صوت شهيد المحراب خلال تلك الحقبة حاضراً ،ويصدح عالياً من خلال منبر الجمعة في الصحن الحيدري الشريف ، ليعلن في ضرورة تحديد جدول زمني لإخراج المحتل ، وإجراء الانتخابات البرلمانية والتي تحدد شكل الدولة العراقية الجديد .
وظل هذا التلازم اللطيف بين المرجعية الدينية ، والتي وقفت على مسافة واحدة من الجميع ، والذي يعني بالضرورة أن المرجعية لا تؤيد احداً من الكتل أو الأحزاب ، ولكنها تفرّق بين المخلص والخائن ، وبين الصالح والطالح ، بل أن المرجعية الدينية تدعو إلى التغيير الايجابي في العلمية السياسية والحكومة المقبلة ، ويكونوا على قدر عالي من المسؤولية الوطنية في التعاطي مع مصالح الشعب العراقي الجريح ، هذا التلازم بين المرجعية الدينية بين رجالها المخلصين الذين وقوفا بوجه جميع المخططات الرامية إلى تمييع وتضييع دورها الرئيسي ، وإبعاد الجمهور عنها ، ليحل محلها متمرجعون ، أو استيراد رجال دين ، يحلوا محل المرجعية الدينية ، تلك المرجعية التي اكتسبت هذه القوة من توفيق الله ، وبركة الإمام المعصوم (عج) .
في الآونة الأخيرة ، كثر التصدي للمرجعية ، والنيل منها ، ومحاولة إبعادها عن الساحة الاجتماعية ، وإبعاد جمهورها عنها، من خلال إطلاق سهام الكذب والافتراء ، والملاحظ أن الجهة التي تنال من المرجعية هي واحد ومعلومة (الدعوة) ، وعندما نراقب ونتابع تصريحات قادة الحزب الدعوجي ، نراه قد أوغل كثيراً في عداءه، من خلال اتهامها مرة بالأمور الإدارية ، ومرة محاولة تشويه صورتها أمام جمهورها ومقلديها ، وآخر هذه الهجمات للمدعو الشابندر ، وهو يسيء إلى مرجعية دينية عمرها أكثر من إلف عام ، وهي تحامي وتدافع عن العراق وشعبه .
التاريخ سوف يسجل تلك المواقف التي يقوم بها سماحة الإمام السيد السيستاني في الحفاظ على الدم العراقي ووحدة الصف العراقي من خلال تلك المواقف التي تعبر عن حبة واخلاصة وحرصه لهذا الشعب العريق صاحب الحضارات العريقة وباقي المخلصين من أبناء هذا الشعب في الوقوف مع حقوق هذا الشعب المظلوم ودعوة السيد عمار الحكيم إلى الجلوس والحوار للخروج من الأزمات التي يمر بها بلدنا لهي خير مثال في بناء حكومة قوية تكون في خدمة المواطن وبناء العراق الجديد.
لهذا ستبقى المرجعية الدينية صمام الأمان الحقيقي للعملية السياسية في العراق والتي أسهمت أسهاماً مباشراً في الحفاظ على مكتسبات أبناء الشعب العراقي ودماءهم . فدور المرجعية معول عليه في كثير من الأزمات السياسية التي عصفت بالعراق في فترة ما بعد العام٢٠٠٣ ،وقد أسهمت في تطويق الأزمات وإعادة العملية الديمقراطية إلى مسارها الصحيح .
لقد عبرّت المرجعية الدينية عن تذمرها من الأداء الحكومي المتمثل بالعلن من خلال معتمديها في كربلاء "الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد أحمد الصافي"التي تمثل أصواتهم عين الحكمة والتعقل ومثلاً لرجال الدين الذين يشغلهم خدمة البلاد والعباد. فلاشك أن كل الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية المرتبطة مصيرياً أو عقائدياً أو براكماتياً بالعراق تدعوا إلى ضرورة تدارك الأزمة الحالية.
وشهد العراق أزمة سياسية أدى استمرارها إلى خروج تظاهرات شعبية في محافظات الانبار ونينوى وصلاح الدين مطالبة بالإفراج عن المعتقلات والمعتقلين وإصدار قانون العفو العام وإلغاء قانون المساءلة والعدالة[اجتثاث البعث سابقاً] والمادة [٤] إرهاب، وتحقيق التوازن، وغيرها من المطالب. واستمرت هذه الأزمة حتى هذا اليوم ولكن كبدت العراق و العراقيين خسائر فادحة في القوات الأمنية والتي تحاصر الانبار منذ أشهر ، ناهيك عن الخسائر المادية في المبان الحكومية والمدنية ، والتي تقدّر بمليارات الدولارات ، واما مرورا بدور المرجعية في هذه الأزمة التي تجتاح البلاد نري بان رؤية المرجعية الدينية في حل الأزمة التي يعاني منها العراق نصت من البداية على تحمل الجميع للمسؤولية، ومشاركة الجميع في حل الأزمة الحالية.
وأعلنت المرجعية الدينية في النجف الاشرف آنذاك خمس توصيات تتعلق بالأزمة والتي انتقلت تداعياتها وأثارها إلى الشارع العراقي وهي:
١- أن جميع الكتل السياسية والسلطات التنفيذية والتشريعية مسؤولة مسؤولية شرعية ووطنية للخروج من هذه الأزمات التي اشتدت في الفترة الأخيرة فان المسؤولية في العراق مسؤولية تضامنية تقع على عاتق جميع الشركاء في العملية السياسية.ولا يصح ان يرمي كل طرف كرة المسؤولية في ملعب الطرف الأخر.
٢-الاستماع إلى المطالب المشروعة من جميع الأطراف والمكونات ودراسة هذه المطالب وفق أسس منطقية ومبادئ الدستور والقوانين النافذة وصولا إلى إرساء دعائم دولة مدنية قائمة على مؤسسات دستورية تُحتَرمُ فيها الحقوق والواجبات.
٣-عدم اللجوء إلى أي خطوة تؤدي إلى تأزيم الشارع بل المطلوب خطوات تهدئ من الأوضاع وبالخصوص تهدئة الشارع والمواطن بصورة عامة.
٤-عدم السماح بأي اصطدام بين الأجهزة الأمنية والمتظاهرين وندعو هذه الأجهزة إلى ضبط النفس وعدم الانفعال والتعامل بهدوء وحكمة مع المتظاهرين.
٥- أن من الأسباب التي أدت وما زالت تؤدي إلى المزيد من الأزمات وتأزيم الشارع العراقي هو تسييس الكتل السياسية والقادة للكثير من الأمور والملفات التي يجب أن تأخذ حقها الدستوري والقانوني من الاستقلالية في اختصاصها وعدم تدخل السياسيين فيها ولذلك فالمطلوب من جميع القادة وسياسيي البلد هو الحفاظ على حيادية واختصاص هذه الملفات والقضايا وعدم استغلالها سياسياً لتحقيق مكاسب سياسية.
وهنا نستطيع القول أن المرجعية وضعت الأصبع على القشة التي قصمت ظهر البعير حيث تؤكد أن سبب ما نعيشه اليوم من تفقيس للازمات وعدم تصفيرها هو ما تقوم به الكتل السياسية والقادة من تسييس بعض الملفات والمؤسسات والتي يجب أن تحظى باستقلالية وفق الدستور والقوانين المقرة منها ويجب التأكيد على استقلالية القضاء من قبل القادة والكتل السياسية عملا وقولا.
لهذا وبكل صدق يمكن القول بان المرجعية الدينية جسر ممتد إلى جذور التاريخ العراقي وبوصلة لبناء المستقبل لأنها أخذت دورها في تشخيص الخلل والدفاع عن حقوق المواطنين دوما ومعروفة بمواقفها الصادقة حيث قدمت موقفا عظيما في معالجة الأزمة الراهنة وأكدت على عدم التقليل من قيمتها وعمقها من اجل حل الأزمات وهذا ما لمسناه ولاحظناه منذ سقوط النظام السابق ولغاية الآن . لاشك بان اغلب الكتل السياسية تحترم رأي المرجعية وملزمة بتطبيق ما تريده لتجنب البلد من مخاطر هذه الأزمة وكذلك لأنها تمثل صوت جميع العراقيين بدون استثناء . بالتأكيد حرص المرجعية الدينية على اللحمة الوطنية وخوفها من تدهور الأوضاع التي يذهب ضحيتها المواطن الفقير جعلها تصدر هذه التوصيات لذا علي الكتل السياسية كافة الالتزام بها لأنها الحل الوحيد الذي يجنب العراق الحرب الطائفية وبالنهاية اعتماد توصيات المرجعية هو الحل الأمثل للازمة الراهنة التي تعصف بالبلاد.