النبي موسى مغموم، عجباً كليم الله يغتم، وهو المؤيد بأنواع المعجزات، فماذا دهاه لكي يقع في الغم؟
لأن موسى قتل نفساً، هكذا يخبرنا القرآن الكريم:
[وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ] (طه: ٤٠)
ارتكب موسى القتل بعد اصطفاءه، فهو مختار منذ الولادة، وبعد أن أتاه الله الحكم والعلم:
[وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ] (القصص:١٤-١٥)
يبدأ سرد وقائع الجريمة بالتذكير بأن النبي المختار المحسن ذي الحكمة والعلم الرباني، أي أفضل البشر على وجه الأرض قاطبة في حينه، دخل المدينة فوجد رجلين يقتتلان، فما الذي حدث بعد ذلك:
[فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ] (القصص:١٥)
اصطف موسى مع الرجل من شيعته فقضى على عدوهما، موسى وشيعته مؤمنون، والمقتول كافر، فهل ارتفع صوت النبي وصاحبه بالتكبير؟ وهل استحق موسى بفعلته أفضل الثواب من الله؟ بل العكس تماماً، وبشهادة القرآن الكريم:
[قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ] (القصص:١٥)
[قالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ] (الشعراء: ٢٠)
امتدت يد موسى لتقتل، وتحت تأثير الشيطان المضل، وهو حكم النبي على نفسه، وهذا شرط ضروري لطلب المغفرة:
[قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (القصص:١٦)
لو لم تكن فعلة موسى خطيئة لما احتاج لمغفرة الله، ومقابل الغفران وغيره من النعم قطع النبي على نفسه عهداً:
[قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ] (القصص:١٧-١٩)
كاد النبي أن يكرر فعلته بالأمس، تحت تأثير التحريض والعصبية العمياء، لولا أن جاءته موعظة، وممن؟ من الفرعوني!
نقلوا عن بعض المفسرين القدامى وأتباعهم في الماضي والحاضر بأن موسى اغتم بسبب خوفه من عقاب السلطة الفرعونية لا من كون قتل الفرعوني خطيئة، وهم بذلك يناقضون الحقائق القرآنية الواضحة، ويتغافلون عن طلب موسى المغفرة واعترافه على نفسه أمام فرعون بأنه كان ضالاً عند اقترافه للجريمة، فما أشبههم بالشيطان المضل.
ربما يود البعض لو لم يأتي القرآن الكريم على هذه الواقعة، لأنها تظهر ضعف نبي عظيم أمام غواية الشيطان، ولو لم تكن هنالك فائدة عظيمة من هذه القصة لما بينها الله في كتابه العظيم، فما هي هذه الفائدة التي حاول المفسرون المضللون اخفاءها؟ هي باختصار أن قتل النفس البشرية، حتى لو كانت كافرة مثل الفرعوني، وخطئاً لا عمداً كما في فعل موسى، خطيئة كبرى من عمل الشيطان، تستوجب الاستغفار والدليل استغفار موسى، وتترتب على مقترفها معاناة دنيوية كما حدث لموسى إذ اضطر للتغرب في مدين لسنين.
النجاة تعني الخلاص من الموت أو خطر عظيم، ويصف القرآن الكريم خلاص موسى من غم قتل الفرعوني الكافر بأنه نجاة، وهذا دليل على جسامة هذا الغم، والله هو الوحيد القادر بقبوله الاستغفار على أن ينجي الإنسان من غم القتل.
في العراق وسورية ولبنان وأفغانستان وباكستان واليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر ومالي ونيجيريا والصومال يقترف الإرهابيون السنة مجازر بربرية، أغلب ضحاياهم مسلمون رافضون لتسلط الإرهابيين وعقيدتهم ما دون البهيمية، فإذا كان قتل كافر من غير عمد فعل شيطاني، تترتب عليه استغفار مرتكبه، ولو كان نبياً من أولي العزم، وبقاءه في المنفى بعيداً عن أهله سنين عديدة، ولو لم يفعل ذلك لما نجاه الله من غم القتل، فأي غم ثقيل ينتظر أتباع داعش والنصرة والقاعدة وأنصار الشريعة والشباب وبوكو حرام وأمثالهم ومن والاهم أو ساندهم بالقول أو الفعل أو سكت على جرائمهم؟ ولأنهم قتلوا مسلمين ناطقين بالشهادتين وغيرهم عمداً وإصراراً فلا غفران لهم في الدنيا والآخرة، ولينتظروا أعظم الخزي في الدنيا ولهم في الآخرة غضب من الله وعذاب عظيم.
(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والإصلاح ووسيلة كبرى هي التعلم)