تحولت الكنائس في الموصل إلى فتات بعد تفجيرها أو إلى محاكم شرعية للتنظيم أو سجون لمعارضيه بعد أن انتزعت منها الصلبان والرسوم والنقوش وتم تدمير أية إشارة توحي إلى أنها كانت كنائس ذات يوم.
كانت الكنائس موزعة في مختلف أنحاء مدينة الموصل التي كان يسكنها نحو مليون ومئة ألف شخص، في أحياء ومناطق "العربي والنور والفيصلية وسوق الشعارين والساعة والدواسة والمجموعة" في إشارة الى تعايش سلمي اتصفت به المدينة قبل أن تفقد الدولة سلطتها وبالتالي هيبتها لتفرض الجماعات المسلحة قوانينها وشرائعها.
ويعدد الباحث متي بهنام أسماء لأقدم وأشهر كنائس الموصل وهي "شمعون الصفا والطاهرة ومسكنته ومارتوما ومار كوركيس" ويشير الى أن أشهرها على الإطلاق هي كنيسة (الساعة) في منطقة الاوس في الجانب الأيمن لمدينة الموصل.
و(كنيسة الساعة) هو الاسم الشعبي لها بينما الذي يطلقه عليها مسيحيو الموصل فهو اسم كنيسة (أم الأعجوبة) او بيعة (الباتري) وتعني باللغة الايطالية بيت الآباء، وتسمى أيضاً كنيسة (اللاتين) أو (الآباء الدومينيكان).
افتتحت الكنيسة في الرابع من آب (أغسطس) ١٨٧٣ لتكون مركزاً للآباء الدومينيكان في المدينة، وتم إكمال بناء برج ساعتها الشهيرة في تموز (يوليو) ١٨٨٢ وهي عبارة عن نصب قدمته كهدية للآباء الدومينيكان، الملكة أوجينة زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث مكافأة لجهودهم التي بذلوها في تقديم العلاج وتوزيع الأدوية والأغذية لأهالي الموصل بعد ان فتك مرض التيفوئيد بالكثيرين منهم بين عامي (١٨٧٩- ١٨٨٠).
ومنحت هذه الساعة طوال ١٣٣ سنة شهرة كبيرة للكنيسة بل وأطلق اسمها على المنطقة بأكملها إذ تعرف ولغاية اليوم بمنطقة "الساعة".
ويصف بهنام الساعة بأنها كانت ذات أربعة أوجه وعقاربها تدار بنصبها يدوياً لأكثر من قرن قبل أن تزود بنظام الكتروني في العقد الثامن من القرن المنصرم، وكان صوت دقاتها يصل الى مسافة قطرها ( ١٥ كم) ومعظم أهالي المدينة كانوا يضبطون ساعاتهم على وقتها.
ويضيف أن للكنيسة قبتين واسعتين متساويتي الحجم مع صحن يمنح مئة مصلٍ مساحة لأداء صلواتهم، هذه الصلوات بقيت مكتومة وحبيسة الجدران طوال عقد مضى قبل أن تكتم داعش أنفاسها تماماً.
ويعو د.ذنون الطائي مدير مركز دراسات الموصل ثلاثة عشر عقداً للوراء وتحديداً بين سنتي ١٨٧٩-١٨٨٠ويقول إن المدينة شهدت في تلك الفترة مجاعة كبيرة وتفشياً لأمراض كثيرة كان أخطرها حمى التيفوئيد التي قتلت العشرات من سكان الموصل ومحيطها.
فقام الآباء الدومينيكان المتواجدون في الموصل منذ سنة ١٦٣٦ بمعالجة المرضى وتوزيع الأدوية والأغذية على المصابين والفقراء وساهموا بنحو كبير في الحد من تداعيات تلك الفترة، وتقديراً لما بذلوه من جهود قدمت الملكة الفرنسية ساعةً بوجوه أربع كهدية لهم، وضعت في برج كنيستهم التي صار اسمها لاحقاً كنيسة الساعة.
ويروي د. ذنون كيف أن سكان المناطق المحيطة بالكنيسة احتجوا وقتها على وضع الساعة بذلك الارتفاع الذي يشرف على سطوح منازلهم التي ينامون فيها مع عائلاتهم في موسم الصيف. فطمأنهم الآباء الدومينكان أن الساعة مهمتها تذكير الناس بمواعيد الصلاة ولن يصعد إليها أي شخص من الكنيسة.
وجود الكنيسة في قلب مدينة الموصل وفي أقدم أحيائها الشعبية لم يبعد عنها المخاطر، إذ تسببت المياه الجوفية التي تطوف فوقها الموصل القديمة بتشققات في جدرانها واستعانت الحكومة العراقية بعد انتهاء الحرب الإيرانية في ١٩٨٨ بشركة ايطالية لترميمها، وتوقفت تلك الأعمال بعد احتلال العراق للكويت في آب/ أغسطس ١٩٩٠.
بعد سقوط نظام صدام حسين سنة ٢٠٠٣ أضطر عدد كبير من مسيحيي الموصل للمغادرة الى أماكن أخرى آمنة بعد هجمات دموية تعرضوا لها من قبل مسلحين إسلاميين متشددين (القاعدة وأنصار الاسلام) وأغلقت الكنيسة تقريباً أبوابها قبل أن يؤدي تفجير قريب منها في التاسع من نيسان (أبريل) سنة ٢٠٠٨ الى تدمير جزء من برجها وساعتها
وبعد ثمانية أشهر من سيطرته على الموصل أقدم داعش في مطلع شهر شباط (فبراير) من هذا العام على تدمير باقي البرج وإزالة صليب الكنيسة معلناً تدمير رمز آخر من رموز مدينة الموصل بعد أن دمر العشرات من معالمها كمدينتي الحضر والنمرود التاريخيتين وقبر البنت والعديد من الجوامع الأثرية كالنبي يونس والنبي شيت والشيخ فتحي.
المسيحيون النازحون من الموصل يتذكرون بحزن شديد كنيستهم (أم الأعجوبة) وتطوف في خواطرهم مسحة عتاب للأهالي المسلمين المحيطين بها والذين تغنوا بها وضبطوا ساعاتهم على وقعها عقوداً طويلة لكنهم لم يضبطوا أيدي داعش التي عبثت بكنيستهم، هذا لسان حالهم الآن وهم يتذكرون معالمهم التي أصبحت بالنسبة إليهم الآن في أقل تقدير شيئاً من الماضي.